الإرهاب يضرب من جديد
(*) محمد بشير جوب
يمكن وصف الهجوم الإرهابي الذي وقع في استنبول ب “ضربة في العمق” لأنه وقع في العاصمة الثقافية والاقتصادية لتركيا، واستهدف السياحة التي تعد قطاعا مهما من مصادر الاقتصاد التركي، وبقدر ما يضع هذا الحادث المجتمع الدولي برمته في امتحان جديد تجاه محاربة الإرهاب، يقيس لنا أيضا مد مصداقة التعاطف الدولي للذين يقعون ضحايا للإرهاب، كما يضع سؤالا مشروعا، للكشف عن الجهة المستفيدة من الهجوم.
ما يجري في سوريا حاليا من وجود أكبر حملة عسكرية بعد الحرب العالمية الثانية بدعوى محاربة الارهاب، يشير إلى مدى اتساع رقعة هذه الحرب يوما بعد يوم، ومدى الاختلاف الكبير للاعبين الأساسيين في هذه الحملة، بين من يحارب وراء ستار الارهاب لتوسيع النفوذ، ومن يحارب لتصفية حساب مع غريم ينازعه في المصالح، ومن يحارب من أجل دحر حقيقة الارهاب، هذا ما جعل كل الدول المتورطين في هذه الحملة معرضة لهذه الأنواع من الهجوم وتركيا ليست مستثناة من هذه الدول، حيث تعد من الذين تصدروا قائمة التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة داعش، أضف إلى ذلك وقوفها مع الشعب الشوري والمعارضة المسلحة لإسقاط نظام الأسد الذي يدعمه روسيا وإيران، هذا الموقف الذي يتعارض مع مصالح الأخيرين قد يكون سببا لمحاولة تحميل تركيا بعضا من المسؤولية حول ما يجري في المنطقة، أو لمحاولة دفعها لتغيير بعض سياساتها تجاه الأزمة السورية والمنطقة ككل، وإذا كان الاحتمال الأول واردا، يبقى الاحتمال الثاني مستبعدا لارتباط هذه المواقف بالمصالح الاستراتيجية والحيوية لتركيا.
إلا أن ما يدعو للاستغراب في هذا الهجوم الارهابي هو سياسة الكيل بمكيالين الذي عودنا بها المجتمع الدولي في مثل هذه الأحداث، و من خلال مقارنة بسيطة يتضح لك المشهد كاملا، فعقب هجوم “شارلي إيبدو”الذي وقع في فرنسا وجدت ما يمكن وصفه ب “هبة دولية” جعلت باريس عاصمة رؤساء دول العالم مسلمين ومسيحيين ولادينيين، للتظاهر والإدانة، ومن لم يتظاهر اختار من معاجم “الغضب والقلق” أشد الألفاظ المعبرة عن الشجب والإدانة، لاستهجان ما حدث فنجد من يصف الواقعة بأنها ضد السامية أو أنها عمل بربري وإذا كان معتدلا بعض الشيء وصفتها بالهجوم الوحشي، ولما تكرر الهجوم في الميدان الكبير في فرنسا تكررت معه نفس المواقف والإدانات بأوسع نطاق بل أشد مما كان.
أما “إسطانبول” ليست كـ “باريس” لا في الوزن ولافي المعنى، لاعتبارات كبيرة، فليس فقط لأنها تابعة لدولة مسلمة تخطو خطوات جادة لتكون قوة عظمى، ولا لأنها تقف مع الحق والعدل ونصرة القضايا العادلة، بل لأنها بالفعل حجر عثرة أمام نجاح المخطط الكبير الذي يراد للمنطقة، فلذلك حجم الإدانات والقلق لايتصور أن يرقى إلى مستوى تلك التي تكون لفرنسا، أو لإسرائيل أومن على شاكلتهم.
ما أشرنا إليه ربما خير دليل للوقوف على أكبر الجهات استفادة من هذا الهجوم، فعقب الانجازات التاريخية من الناحية الاقتصادية التي حققها الحزب الحاكم ذو التوجه الاسلامي في تركيا لوحظت محاولات عدة لزعزعة الاستقرار السياسي الذي هو خير ضمان لأي نجاح اقتصادي في تركيا، فحدثت احتجاجات 2013، ما جعل الرئيس أردغان يصرح قائلا: ” هناك جهات خارجية تريد إلحاق الأذى باقتصاد تركيا وبمكانتها في الساحة الدولية من خلال الاحتجاجات القائمة في البلاد”، ثم سرعان ما أدركت تلك الجهات الخارجية بفشل خطتهم، فلا يستبعد أبدا قيام من لا يريد نجاحا لأي تجربة إسلامية بضرب العمق التركي لإفشال ما يسمونه أحيانا بـ “أسلمة تركيا”.
رغم ما يمكن أن تؤثره هذه الضربة من سلبيات في الاقتصاد والأمن التركي، إلا أنها تبقى عديمة الجدوى لإسقاط القيادة الحالية في تركيا، أو لإجبارها لاتخاذ مواقف تتنافى مع قناعاتها، أو حتى للنيل من شعبيتها، وفي استطاعتها أن ترد على تلك الأيادي الخارجية الخفية في الزمن والمكان المناسبين وبأحكم أسلوب.