الأبعاد الدِّلالية للانتخاباتِ التشريعيَّةِ… عرضٌ وتحليلٌ

(*) محمد بشير جوب

انتهى دويُّ الانتخابات التشريعية في السنغال بإعلان اللجنة الوطنية لتعداد الناخبين عن النتائج الرسمية في انتظار تأكيدها من المجلس الدستوري، ومع أنها كانت انتخاباتٍ دوريةً عاديةً إلا أنها كانت تتميَّز بخصائصَ عامةٍ نشهدها لأول مرة في التاريخ السياسي السنغالي، ولذا لقد خلَّفت نتائج تقتضي الوقوف لتقدير المواقف، وإعادة قراءة الخارطة السياسية السنغالية بشكلها الجديد، ومحاولة تنبُّؤ الانعكاسات التي ستؤثر بالدرجة الأولى على مختلف الفاعلين في الساحة السياسية في الحال والمآل، وبالدرجة الثانية على الشعب السنغالي بمختلف شرائحه.

لا يمكن حصرالعوامل التي تحكَّمت على الانتخابات التشريعية على عاملٍ واحدٍ، ولكن تأتي في طليعتها الظروف الاستثنائية التي يمر عليها البلد، بالإضافة إلى الصحوة السياسية التي ظهرت في صفوف النخبة الحالية؛ بزعامة وجوهٍ جديدةٍ تتبنَّى خط التغيير والإصلاح، هذا في مقابل المعارضة الهشَّة التي تقودها الأحزاب الكلاسيكية، أضف إلى ذلك الرجوع غير المرحَّب به للسياسي المخضرم والرئيس السابق عبد الله واد إلى ممارسة هوايته السياسية، يَنْضاف إلى كلّ ما ذكر الدهاء السياسي الذي مازال يُبديه الرئيس ماكي صال تجاه خصومه السياسيين وتمكن من خلاله شقَّ صفوف المعارضة، وتشكيل تحالفاتٍ موازيةٍ لها عملت في تشتيت القاعدة الشعبية للمعارضة.

استحضاراً لكلّ هذه العوامل والملابسات؛ بل العملية الانتخابية بأكملها وماسوف تعقبها من انعكاسات تأتي كتابة هذا المقال، لإعطاء تفسيراتٍ وأجوبةٍ لبعض الألغاز التي يثيرها المواطن العادي، والناشط المهتم، وأمامنا سؤالٌ محوريٌّ يتلخص في الآتي:

ماهي الدلالات المستنبطة من الانتخابات التشريعية، وهل أفرزت صياغةً جديدةً للخارطة السياسية السنغالية، وهل سنجد بعدها حالةً من التوازن المفضي إلى الإصلاح المنشود؟

الظروف الاستثنائية للانتخابات التشريعية:

في بداية نشأتها كدولةٍ حديثةٍ، تبنت السنغال نظاماً برلمانياً؛ كان يعتبر بأنه الأنسب لدولة ناميةٍ مثلها، ولكن نتيجة تصفية حساباتٍ سياسيةٍ بين “سنغور” و”محمد جاه” تم تحويل النظام إلى نظامٍ رئاسيٍّ ليس كبقية الأنظمة الرئاسية المتعارف عليها في بقية التطبيقات المعاصرة، لأن حبَّ السيطرة والخوف معاً جعل “سنغور” يخصص للرئيس سلطاتٍ واسعةً فوق الخيال، هذا ماجعل النظام الرئاسي الذي فرضه سنغور نظاماً رئاسياًّ مُركَّزاً، ولم يختلف الوضع حتى اللّحظة.

 أوجد هذا التطبيق على مرّ العصور صورةً ذهنيّةً في عقل المواطن العادي؛ جعلته يعتقد أن الرئيس وحكومته يمثِّل كلّ السلطات، ولا يعطي أهمية للمجلس الوطني كما لا يلتفت لسلطاته، ولايعرف بأن المجلس الوطني إنما أوجد من أجل ضبط ومراقبة أداء السلطة التنفيذية، وأن النواب الأكْفاء في مجلس كفءٍ هو مربط الفرس في جعل الرئيس يسهر على هموم المواطنين، وأن أهمية المجلس لاتقلُّ عن أهمية السلطة التنفيذية، وقصار القول أن المواطن السنغالي لم يكن يدرك أهمية المجلس الوطني بشكلٍ سليمٍ ودقيقٍ، يجعله يهتم بانتخاب نوابه ومحاسبتهم كما يهتم بانتخاب الرئيس.

ماحصل في الآونة الأخيرة بفضل بعض الناشطين السياسين أحدث طفرةً إيجابيةً في تفكير المواطن، وعدّل إلى حدٍّ كبيرٍ في وعيه حيال الدور الأساسي للمجلس، ولعل الذي ساعد على ذلك هو ظهور الكشوفات الأخيرة للبترول والغاز في البلد، وماتبعه من غموض في إدارة هذه الثروات؛ أثبتتها التحقيقات التي قام بها بعض الناشطين، هذه الملابسات دفع الناشطين إلى ربط الحكم الرشيد والإدارة النزيهة للموارد بوجود برلمانٍ قويٍّ قادرٍ على أداء دوره، تلقَّف المواطنون هذه الصيحة وتفاعلوا معها، وبدؤوا يدركون أهمية المجلس وتؤكد ذلك وصول نسبة المشاركين 53% مجاوزا نسبة المشاركين للانتخابات الرئاسية الأخيرة في دورها الأول، وكانت النسبة لتجاوز ذلك؛ لو لم يتم حرمان نحو مليون من التصويت، تعتبر هذه النسبة في انتخاباتٍ تشريعيةٍ مقارنةً مع الانتخابات الرئاسية سبقاً في التاريخ السياسي السنغالي، ويمكن تفسير ذلك في نظري بأنه يوجد الآن شعورٌ قويٌّ لدى المواطن بأن الملفات التي أُثيرت أخيراً في الأروقة السياسية، أو بالأحرى مايخصُّ التحوّل الاقتصادي الجذري الذي سوف تشهده الدولة قريباً، يجب توريط  المجلس الوطني فيه، وتفعيل دوره في مجال التشريع  والمراقبة والمحاسبة لضمان مستقبلٍ آمنٍ للشعب.

وبجانب آخر يتزامن عقد هذه الانتخابات مع أفول الجيل السياسي الأول والثاني؛ الذي مسك مفاصل الدولة منذ نشأتها، وظهور جيلٍ ثالثٍ جديدٍ بحماسٍ متزايدٍ، وهم في الغالب لم يسبق لهم تجربة سياسية، ولكن القاسم المشترك لهذا الجيل هو بغض نوع السياسة التي تم فرضها على الشعب السنغالي البريء ولم ينتج عنها إلا عجزاً وتفحيطاً سياسياً لا يصحبه أمل لبناء مستقبل آمن له، كان هذا الجيل في حساب المعارضة وفي حساب التحالف الحاكم أيضا، ولما علم التحالف الحاكم أن بزوغ هذا الجيل ليس في صالحه وهم يمثلون قاعدةً شعبيةً للمعارضة، تم إقصاؤهم من التصويت بحججٍ واهيةٍ لا يقبلها العقل السليم مهما حاول التحالف الحاكم تبريرها، ولم يكن حكم المجلس الدستوري إلا ذرّا للرماد في العيون، كما يمكن اعتبار تبرير الوزير الداخلي للأمر عذراً أقبح من الذنب.

أرجعتُ البصر كرّتين إلى العملية الانتخابية برمّتها؛ فوجدت أنها كانت امتحاناً على الشعب قبل أن تكون امتحانا على المرشحين، فبعدما صدّقت أحد النواب من الأغلبية الحاكمة على شهادةٍ تاريخيةٍ؛ مفادها أن المجلس الوطني لهذه الدورة يعتبر أفشل مجلسٍ عرفه التاريخ السنغالي، وشهدنا عقب ذلك اختلاساً صريحاً للمال العام؛ بعدم إيصال الضرائب إلى الخزانة العامة بعد خصمها من النواب، وكان استدراك ذلك من المعنيين اعترافاً صريحاً بالذنب، أضف إلى ذلك تحويل المجلس إلى مسرحٍ للخصومات وتصفية حساباتِ بين التحالف الحاكم والمعارضة.

 كل ذلك وغيره جعلني أزعم أن الانتخابات وضعت الشعب أمام مسؤوليةٍ تاريخيةٍ، لمعرفة ما إذاكان الشعب سيلقِّن السياسيين درساً في المسؤولية السياسية، وذلك بقلب موازين القوى بين التنفيذية والتشريعية، بحيث لا تكون السلطة التشريعية مسيطراً على المشهد فنكون في دوَّامة عدم الاستقرار السياسي، ولايصل الطغيان السياسي بالسلطة التنفيذية إلى ممارساتٍ تعسُّفيةٍ لااعتبار فيها لإرادة المواطنين.

بالإضافة إلى ما سبق؛ يجدر بنا أن نذكر أنه لأول مرةٍ في التاريخ السياسي السنغالي يتمُّ فيه عقد انتخاباتٍ تشريعيّةٍ قبل الانتخابات الرئاسية، حيث كان السائد والمعتمد منذ الاستقلال تنظيم انتخابات رئاسية تعقبها انتخابات تشريعية، مايعني أن الرئيس الذي كان يتم انتخابه تجديداً لولايته أو الرئيس المنتخب من صفوف المعارضة، هو الذي يقوم بتنظيم الانتخابات التشريعية ويكون من السهل للرئيس المنتخب جديداً الحصول على أغلبية تسمح له بتنفيذ برنامجه السياسي.

 أما في هذه الحالة الجديدة إذا افترضنا انتخاب رئيسٍ من صفوف المعارضة؛ وذلك بعد نهاية دور الرئيس الحالي في 2019 سيكون أمام الرئيس خيارٌ صعبٌ  وهو الرئاسة دون الحصول على أغلبيةٍ مطلقةٍ؛ لأنه يكون قد بقي من دور المجلس سنتين على الأقل، الأمر الذي يمكن أن يدخل الدولة في عدم استقرار سياسي؛ ذلك لأنه وفق الدستور يمكن للأغلبية المطلقة سحب الثقة من الحكومة وإسقاطها، وفي مقابل ذلك للرئيس سلطةُ حلّ المجلس، ففي هذه الحالة يكون الاستقرار السياسي بين سندان الرئيس ومطرقة المعارضة، اللهم إلا إذا تعقَّل أحدهما وغلَّب المصلحة العليا للبلد، وأستبعد ذلك نظراً لحالة الاحتقان السياسي الموجود حالياً بين الأحزاب، أما إذا انتخب الرئيس الحالي لولايةٍ جديدةٍ فسينعدم هذا الفرض ويثبت الأصل.

العملية الانتخابية بين حسابات السلطة وتقديرات المعارضة.

شهدت العملية الانتخابية بدايةً من التسجيلات؛ وصولاً إلى إعلان النتائج مبارزةً حقيقةً بين السلطة والمعارضة، إلا أن الملاحظ هو أن التحالف الحاكم كان يحسم كل المسائل لصالحه، وسط تفرُّج وعجز المعارضة عن المقاومة، بسبب الانشغال عن المسائل الهامشية تارةً، وتارةً أخرى عن مشاكل نفسها، فلما كان الرئيس ماكي صال يقبل البطاقات الشخصية للمجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا؛ كأول دولةٍ في المنظمة تقبل هذا الإجراء كانت الانتخابات على بُعد ستة شهورٍ فقط من الانعقاد، وكان معلوماً لدى المعارضة الربط المباشر بين البطاقة الشخصية والانتخابية، ومع إصرار التحالف الحاكم قبلت المعارضة هذا الإجراء، ولم تفهم المعارضة إلا في يوم الانتخابات أن قرار كهذا سيكون له مردوداً سلبياً على قاعدته، وهو أن هذا الجيل الثالث الذي يبلغ 800 ألف شخصٍ من تعداد الناخبين حسب اعتراف وزير الداخلية بنفسه، ومليون شخصٍ حسب احصاءات المعارضة، لن يتمكّنوا من التصويت إلا في ظروفٍ صعبةٍ تكون نهايتها اليأس والاستغناء عن التصويت بسبب الإجراءات الإدارية المعقَّدة التي تم فرضها عليهم.

 ولقد حاولت المجلس الدستوري تفادي هذا الخطأ المخجل في قراره الذي حاول فيه إعادة تعريف الناخب على نحو خالف فيه تعريف قانون الانتخابات، بغية استيعاب هذه الفئة إلا أن المحكّ الذي حال دون إسعافهم هو أن هذا الجيل لم يحصل قط على هوية تعريفية كالبطاقة الشخصية أو الجواز أو حتى رخصة قيادة، وبالتالي لايمكن له التصويت إلا في ظروفٍ صعبةٍ، لأن التصويت بالإيصال وهو الاستثناء الذي رخص فيه المجلس، يُلزم على صاحبه الحصول على بطاقةٍ سابقةٍ أو جواز السفر الأمر الذي لم يتوفَّر لدى هذا الجيل، وكان الشرط الرابع الذي أدرجه المجلس الدستوري وهو التصديق على الإيصال من قبل  الوالي غاية مافيه أنه عقد العملية الانتخابية لهذا الجيل، وقد رصد المعارضة عديدا من شكاوى صعوبة الحصول على هذا التصديق بسبب مماطلة الموظفين، كما أن الحصول عليه    

 فحرمان هذا العدد الهائل من التصويت يعتبر فضيحة في دولة ديموقراطية، ويبقى السؤال فيما إذا كان خطأ غير معمّد، أو حساباً دقيقاً كان في مخيلة السلطة الحاكمة  قصد فيه إقصاء هذا الجيل، والشيء الذي لايختلف فيه اثنان هو أن هذا الجيل كان من مكونات القاعدة الشعبية للمعارضة، لأن طبيعتهم في الأساس هو رفض الموجود والبحث عن البديل، أضف إلى ذلك حالة اليأس السائد في أوساطهم تجاه التحالف الحاكم، وبالتالي فالمستفيد في ضياع مليون صوتٍ هو التحالف الحاكم، ولكن للمعارضة التي كان واجبها حماية هذه الجيل مسؤوليةٌ كبيرةٌ في حرمانهم حقهم الدستوري قي التصويت، ويبدأ الخطأ من سوء تقدير المعارضة وقبولها خوض الانتخابات بهذه البطاقات الجديدة والمُكْلفة في آن واحد، ويشرع للمواطن العادي أن يسأل عن مصير 51 ملياراً خُصص لهذه العملية، بينما دولة مجاورة تنجزها بـ 17 ملياراً.

في آخر أيام الانتخابات حصلت مراوغة أخرى من قبل السلطة رغم أنف المعارضة، وهو السماح للناخب بسحب خمس قوائم فقط من ضمن قوائم المرشحين، وهو إجراءٌ يبدو في الوهلة الأولى أنه لاغبار عليه، ويمكن الاتفاق عليه من حيث المبدأ، إلا أن المفارقة التي لا يستسيغها المنطق السليم هي أن الحكومة ادعت أن هذا الإجراء كان الغرض منه الإسراع في العملية الانتخابية للناخب.

 بينما المعارضة اقترحت قبل ذلك توحيد القوائم الانتخابية في قائمةٍ واحدةٍ، الأمر الذي كان يفي بغرض الحكومة، إضافة إلى ما هو أهمّ من ذلك، وهو تقليل تكلفة طباعة هذا الكم الهائل من القوائم، حيث كلفت هذه الطباعة الدولة 8 مليارات، فيما لو تم العمل بهذا المقترح لا تجاوز التكاليف 3 مليارات، ومع كلّ هذا رفضت الحكومة هذا المقترح وفرضت على المعارضة قانوناً جديداً مرّ بدون مقاومة، كرّس فكرة تعدُّد القوائم، مع خيار الاكتفاء بسحب خمسةٍ منها للناخب أثناء التصويت ، والحالة كهذه مهما يكن للمرء من نيةٍ حسنةٍ، لا يستطيع أن يقتنع في أن رفض هذا المقترح لم يكن لحاجة في نفس يعقوبة قضاها، وخاصة لما شهدنا تأخيراً في وصول بعض قوائم من المرشحين في مناطق بعينها.       

الانتخابات التشريعية ورهانات المعارضة الخاسرة.

كانت حالة الاستقطاب السياسي قبل وأثناء الانتخابات التشريعية قد وصلت إلى حدٍّ غير مسبوقٍ، فلم تكن كثرة القوائم الانتخابية مجرد نتيجةٍ طبيعيةٍ لكثرة الأحزاب والحركات، بل كانت أيضا تعكس حالة الهذيان التي وصلت إليه أحزاب المعارضة الكلاسيكية فيما بينهم، دفعهم إلى ارتكاب أخطاء سياسية لم ينتبهوا لها إلا بعد صدور النتائج، فطفق “بامبا فال” أحد قيادات المعارضة يُعبِّر عن الاعتراف الصريح بخطئهم القاتل بعد صدور النتائج الأولية، ويرجع هذا الخطأ إلى معادلةٍ هي أن كلا الفريقين دخلا في الانتخابات بنفس انتخابات رئاسية، وحسابات 2019.

 إلا أن ترتيبات التحالف الحاكم كانت أسلم وأنسب إلى حدٍّ كبيرٍ، لأنه بكل بساطة في انتخابات رئاسية في النظام السياسي السنغالي يحتاج المعارض المحنَّك إلى تكثير الأحزاب والتحالفات، وكلما كثرت الأحزاب والتحالفات كلما كان المعارض أقدر في إحداث اهتزازٍ في قاعدة الخصم وتشتيت الأصوات على حسابه، بينما في انتخابات تشريعية يجب العمل خلاف القاعدة وهو التقليل من قائمة المرشحين، والدخول في تحالف قوي مهما كان الثمن للمحافظة على القواعد الشعبية للأحزاب، وإذا لاحظنا نجد أن المعارضة بالجملة عملت بمعادلة عكسية لما قلنا، فعددت القوائم واستبعد التحالف، فأضر نفسها، وأعطت خدمة جليلة لمنافسها، أدى ذلك إلى هذا السقوط المزري.

وفي شأن أحزاب المشروع الإصلاحي لم تكن النتيجة التي حصلوا عليها إلا تصديقاً لانتحارهم السياسي الذي أعلنوا عنها منذ أن رجّحوا الخيار الثاني والثالث – أشرنا إلى ذلك في مقال لنا سابق(1)- ولقد عبّر عن ذلك أحد قياداتهم عشية الانتخابات حيث صرح “الشيخ مختار كبي” رئيس التجمع الإسلامي الوحدة، قائلا: “التيار الإصلاحي هو أكبر خاسرٍ في هذه الانتخابات” وهذا الاعتراف هو لسان حال أكثر المحسوبين من التيار الإصلاحي بصفةٍ عامةٍ، وهذا الاعتراف هو البداية الصحيحة للمراجعة والتقييم الدقيق لضمان عدم تكرار الأخطاء.

يجب أن يفطن أصحاب المشروع الإصلاحي أن تصحيح المسار يبدأ من الآن فصاعداً، وأنه من الخطأ تكرار نفس التجارب وانتظار نتائج مختلفةٍ، وأنه لا يمكن بحالٍ اتباع نفس طريقة التفكير التي أوجدت المشكلة لعلاج المشكلة بعينها، فإن ذلك ضربٌ من اللفّ والدور الذي يبطل كل النتائج التي سيؤدي إليها كما قرَّره المناطقة، فلا بد والحالة كهذه من تغيير المسار وليس بالضرورة في عملية التغيير تغيير الأشخاص وإنما تغيير طريقة التفكير فحسب، واللجوء إلى الأول لايحصل إلا في حالة استحالة الثاني، والمراقب لشأن العملية الإصلاحية يدرك أن الظروف المناسب للإصلاح مواتيةٌ ومتوفرةٌ أكثر مما كانت عليها في السابق، إلا أن الخوف هو العدوُّ الأكبر لمن يريد أن يغير نفسه، أو يريد أن يغير حالةً قائمةً، فالخوف من زوال القائم يجعل الشخص في حالة تردّدٍ وشكٍّ دائمٍ، يمنعه من اتخاذ القرار الصريح والجريء.

استحقاقات المرحلة القادمة للمشروع الإصلاحي.

يكون الاستغلال الصحيح للكبوة التي وقع عليها فرسان العمل الإصلاحي، الإعداد من الآن لتنسيق الأعمال السياسية على مستوى اللجان في الجماعات، أو الأحزاب في الحركات، أو الأحزاب البحتة بحدّ ذاتها، بجانب المستقلين المهتمين بالعمل الإصلاحي، وأعني بذلك تنسيقاً سياسياً قوياً يكون إطاره العام التفاعل مع القضايا السياسية المستجدّة في الساحة والتعاطي معها وفق الرؤى والأهداف المشتركة، لبلورة جوٍّ من الوئام والتآلف الذي سيجعل ربط وتشبيك الجهود عند وقت الصفر مواتيةً لجميع الناشطين في العمل الإصلاحي سواء على مستوى القاعدة أو القمّة.

كما يجب التفريق بين الإجراء السياسي والعمل السياسي، فالأول دوريٌّ يتمثل في عقد الانتخابات وما شابهه، بينما الثاني حلقةٌ مستمرةٌ تفاعليةٌ، والقائمين بالمشروع الإصلاحي غالباً ما يخلطون بين الأمرين، فلا يرون الاتفاق ناجعاً إلا إذا وجدوا أنفسهم أمام مناسبةٍ سياسيةٍ، فينتهزون الفرص للتجمع فإذا هو سهلٌ ممتنعٌ، لعدم توفر البيئة المناسبة لذلك، فمن خلال العمل السياسي المستمر والتلاقح الدؤوب في الأفكار بين العاملين لهدف مشتركٍ تكون الفرص قابلةً للاستغلال إذا وصل الأمر إلى إجراء سياسيٍّ معيّنٍ.

ومما تُحتِّمه المرحلة القادمة على المشروع الإصلاحي إثبات الذات، أعني به أن يثبت أنه مشروعٌ قائمٌ بذاته، وليس تابعاً لقدر الإجراءات السياسية، فيظهر تارةً ويخفي تارةً أخرى، أويعتبر العمل المشترك خياراً مرحلياًّ تتحكّم عليه ظروف الزمان والمكان، بل يجب الاقتناع أن العمل المشترك خيارٌ استراتيجيٌّ، وما الاجراءات السياسية إلا فرصاً لاغتنام هذا الخيار في الزمان والمكان المناسب، ويعتبر النجاح في هذا ضامناً أساسياً للوصول إلى المرحلة الأخيرة وهي تحديد الأدوات السياسية وفق بنية المجتمع السنغالي تمهيداً للقيام بعملية تعبويةٍ شاملةٍ تزيد في رصيد المتعاطفين والمقتنعين بالمشروع.

الخاتمة:

تمخَّض الجمل فولد فأراً، هكذا يمكن وصف حالة الزوبعة التي صاحبت الانتخابات التشريعية منذ التحضير لها إلى إعلان نتائجها، لأنها مع الظروف الاستثنائية التي انعقدت فيها، فلم تكن إلا إعادة إنتاج لمجلس وطني سوف يغلب فيه مداولة الهوامش وجعل الأساسيات عرض الحائط، وتسخين الوجبات المُسبقِ الإعداد بدل النظر في مدى صلاحيتها للاستهلاك، فالأغلبية الساحقة التي حاز عليها التحالف الحاكم لم يُحدث توازناً في المجلس الوطني كان هو المنشود، إلا أن النجاح الباهر الذي حققه حزب الوحدة والتجمع واحتلاله المرحلة الرابعة أمام العمالقة، كان بمثابة حفظ ماء الوجه للمشروع الإصلاحي، والأمل هو أن يقوم هذا الحزب بجانب البقية الصالحين داخل المجلس دور الإصلاح الحقيقي؛ إلى أن يجد عضُداً له في هذه العملية الإصلاحية التي يجب أن تتوسّع أكثر لتشمل شرائح أخرى من تيّار المشروع الإصلاحي ومن المجتمع السنغالي، كما يجب في الآن نفسه استدراك بعض الأخطاء لبعث أملٍ على نفوس اليائسين قبل أن يكونوا ضحايا للمشاريع الأخرى المضادّة.

 كما يمكن القول أن الخارطة السياسية السنغالية منذ تَشكُّلها في عهد “سنغور” لم يطرأ عليها تغيير جذريٍّ ملموسٍ، وما نشهده من تحوّلاتٍ طفيفةٍ في المشهد؛ إن هي إلا إرهاصاتٌ تستوجبُ مضاعفة الجهود لتحقيق الحلم التي لم تفارق يوماً رُوَّاد العمل الإصلاحي منذ انطلاقتهم إلى اليوم، ولا يتحقَّق هذا الإنجاز إلا من خلال “رفض الهياكل القديم”  وهو مصطلح أستعيره من المناضل “محمد جاه” أحد أعمدة هؤلاء الروَّاد.   

الهوامش:

(*) كاتب وباحث في القضايا المحلية والدولية، جامعة كوجايلي -تركيا-  

(1) لقراءة المقال كاملا اضغط على هذا الرابط http://cutt.us/XZwbq 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.