استقلالية القضاء في التنظيم القضائي السنغالي ….نظرة من الداخل (الجزء الأول)
(*) محمد بشير جوب
(الجزء الأول)
السُّلطة القضائية هي المسؤولة عن تحقيق العدالة في كلَّ دولةٍ، وهي التي يُخوَّل لها القانون حقَّ تنظيم حياة النّاس بشكلٍ يحفظ الحقوق والحرّيات، ولايتمُّ ذلك إلاّ من خلال تكريس نظامٍ قضائيٍّ مسؤولٍ و مستقلٍّ يلبِّي الحاجة ويتناسق مع أوضاع المجتمع الذي وضع من أجله، ومن الضروري لكلّ نظامٍ قضائيٍّ كي يثبت نجاعته أن يتميّز بقوّةٍ وفاعليّةٍ تجعله يكون على مستوى التحدِّيات، ويؤدِّي الدور المنوط به بشكلٍ أساسيٍّ، فالسّلطة القضائية ليست بأقلَّ شأنٍ من السّلطة التشريعية والتنفيذية؛ بل هي مُكمِّلةٌ لهما وهي حجر الزاوية في إرساء ركائز دولة القانون؛ لأنها الجهة المسؤولة عن تطبيق القانون و تكريس احترام مبدأ الشرعية و زجر الخروقات التي تَطال هذا المبدأ، ولذا فإذا توافرت فيها الشروط و الضوابط التي حُدِّدت لها ضَمِن ذلك استقلالها وزاد من فاعليتها.
لقد اخلفت المدارس الفقهية حول الصيغة المثالية التي تستطيع أن تحقِّق النموذج الأفضل لأداء السّلطة القضائية؛ كما اختلفت الدول أيضا في تطبيق هذه النظريات ولعلَّ أهمّ ما شغل جلّ هذه المدراس والدول، هو العمل للوصول إلى أداء فعّالٍ لسلطةٍ قضائيةٍ تُكرِّس المعاني الأساسية لدولة القانون، ويمكن القول أن مبدأ “استقلال القضاء” -باعتباره الضامن الأساسي لقضاءٍ نزيهٍ يكون في خدمة المجتمع – كان محلّ اهتمامٍ كبيرٍ لكلِّ من يسعى إلى تعزيز مبادئ العدالة والإنصاف والحكم الشّوري أو الديموقرطي قديماً وحديثاً.
يُفهم من استقلال القضاء أحد معنيين، فباعتبار المعنى العضوي ونعني به رجال القضاء، يُقصد به توفير الاستقلال للقضاة كأشخاص وعدم وضعهم تحت رهبة أيّ سلطةٍ من السّلطات الحاكمة، وأن يكون خضوعهم لسلطان القانون فقط، وأماباعتبار المعنى الموضوعي ويراد به السّلطة القضائية كمؤسّسة في الدولة، فيُقصد بالمفهوم استقلال سلطة القضاء كسلطةٍ وكيانٍ مستقلٍّ عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وعدم السّماح لأيِّ جهة بإعطاء أوامرَ أو تعليماتٍ أو اقتراحاتٍ لها تتعلَّق بتنظيمها وأدائها، فهذا المبدأ يعدُّ قاعدة تُنظّم علاقة السلطة القضائية بغيرها من سلطات الدولة، قائمةً على أساس عدم التدخُّل من قبل باقي سلطات الدولة في أمور القضاء، وذلك بإعطائه سلطةً دستوريةً مستقلّةً عن باقي السلطات.
استقلال القضاء في التنظيم القضائي الإسلامي:
تميّز نظام القضاء الإسلامي تنظيراً وتطبيقاً بمزايا وخصائصَ عديدةً، جعلته مضربَ المثل من حيث القوّة والفعّالية في تحقيق الحكم الرشيد والعادل، وصار بذلك مصدراً يُمكن الرجوع إليه والاستفادة منه لوضع مبادئ القضاء المستقلّ، وكان نظام القضاء الإسلامي في كلّ مرحلةٍ من مراحله يخضع للتطوّرات التي تحيط به، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم في زمنه، مشرِّعا ًوحاكماً فعليّاً للدولة المسلمة وقاضياً في الوقت نفسه فيما تُعرَض للمسلمين من أمور، فبِحُكمِ كونه النبيّ الموحي إليه من عند الله تعالى، جمع في شخصيته الشريفة كل سلطات الدولة وأدارها في أحسن وجه، إلى أن ارتقت روحه إلى الرفيق الأعلى، فترك لصحابته الكرام سنّته الغرّاء كلبنةٍ أساسيّةٍ لنظام حكمٍ يشمل مرتكزات القضاء العادل والمستقلّ.
ففي عصر الخلفاء الراشدين تحديداً في خلافة عمربن الخطاب رضي الله عنه ظهر أول إرهاصٍ غيَّر في شكل النظام القضائي الإسلامي، تمثّل ذلك في تعيين قضاةٍ في الأمصار مستقلِّين وظيفياًّ عن السلطة التنفيذية المتمثلة في شخصية الخليفة، يقول ابن خلدون في مقدمه “… كان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم -يقصد به القضاء- ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم، وأول من دفعه إلى غيره وفوضه فيه عمر – رضي الله عنه – وإنما كانوا يقلّدون القضاء لغيرهم وإن كان مما يتعلق بهم، لقيامهم بالسياسة العامة وكثرة أشغالها”، {[1]} استمرّ الأمر هكذا حتى مجيء العبّاسيين فاسْتُحدِث منصب قاضي القضاة {[2]} الذي أصبح المسئول عن تعيين القضاة في الأقاليم،{[3]} كما اتّسع سلطة القاضي فأصبح ينظر في دعاوى الأوقاف والأحوال الشخصية، إلى جانب القضايا المدنية والجزائية وأصبح في كل ولاية أربعة قضاة يمثّلون المذاهب الأربعة.
يعني ذلك أن الدولة الإسلامية لم تمارس الفصل الموضوعي بيـن السلطات العامـة في تاريخها، ولكنها طبَّقت الفصل العضوي أو الوظيفي من أجل الاستقلال القضائي الذي يعدُّ من الأسس التي ينبغي أن تتحقق في الدولة الإسلامية، يقول عبد الوهاب خلاف في معرض نقاشه للسلطات الثلاث في الإسلام: “العمل الذي قام به عمر رضي االله عنه، وغيره من الخلفاء يعدُّ مدخلاً هاماً لمزيد من الإجراءات والأساليب المبتكرة التي يمكن أن تحيط بالنظام القضائي؛ لتحقيق المقصد الشرعي من مبدأ استقلال القضاء، وهو تحقيق العدالة.”{[4]}
وتجلّت في التنظيم الإسلامي للقضاء عدم جواز تدخل السلطة التنفیذیة في أعمال القضاء، تشهد على ذلك الحادثة التي جرت بین معاویة بن أبي سفیان والي فلسطین من قبل عمر بن الخطاب، وعبادة بن الصامت أول من تولى قضاء فلسطین، فقد خالف معاویة عبادةَ بن الصامت في شيء فأنكر علیه عبادةُ ذلك فأغلظ له معاویة في القول، فقال له لا أساكنك بأرضٍ واحدةٍ أبداً وترك فلسطین وعاد إلى المدینة، فلما قابله عمر بن الخطاب علم منه ما حدث من معاویة، فقال له عمر بن الخطاب ارجع إلى مكانك فقبّح االله أرضاً لست فیها ولا أمثالك وكتب إلى معاویة: (لا أمرة لك على عبادة) وبذلك منع عمر بن الخطاب الحاكم التنفیذي لفلسطین (معاویة بن أبي سفیان) من التدخل في القضاء وسلبه سلطته في مواجهة القاضي.{[5]}
استقلال القضاء في التنظيم القضائي الوضعي:
ففي التنظيم الوضعي ارتبط مبدأ استقلال القضاء ارتباطاً وثيقاً بمبدأ الفصل بين السلطات، ومقتضى هذا المبدأ هو قيام القضاء بوصفه سلطة تقف على قدم المساواة بجانب السّلطتين التشريعية و التنفيذية، وأن تكون مستقلّة عنها كي تُمارس اختصاصاتها بحماية حقوق الأفراد و حرياتهم، بوصفها ضامناً على تلك الحقوق و الحريات، وكان ما كتبه “مونتيسكو” في كتابه روح القوانين بمثابة استنتاجاتٍ عميقةٍ للنظريات التي دعت إليها أفلاطون و أرسطو، حيث دعا الأخير إلى التمييز بين الوظائف الثلاث هي وظيفة المداولة أي الهيئة التشريعية ، ووظيفة الأمر وتعادل الهيئة التنفيذية ووظيفة العدالة أي القضاء.
كما كان أفكاره أيضا بمثابة تلخيصٍ شاملٍ لما كان رائجا من أطروحات فلاسفة التنوير في القرن 18 أمثال “جون لوك” و”جان جاك روسو” حول موضوع الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء، مع تَميُّز مونتيسكو في أطروحاته بقيمة إضافية مهمة خالف فيها معاصريه، وهي دعوته الصريحة إلى فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية خلاف من كان يرى ضرورة الدمج بينهما لتلافي التجزية في السّيادة.
وجدت دعوات مونتيسكو أرضيةً خصبةً للتطبيق بعد الثورة الفرنسية، فجاءت فكرة الفصل بين السلطات مكرَّساً في الدساتير الوطنية لعديد من الدول الحديثة، بجانب تعزيز مبدأ استقلال القضاء، كما وارتبط المبدأ بالحقوق الدستورية، فكان أن أول ما يمكن استحضاره بهذا الصدد هو ارتباط استقلال القضاء بحق التقاضي، وحق اللجوء الى القاضي الطبيعي، بوصفه من الحقوق الدستورية الثابتة التي يتمتّع بها الأفراد من ضمن حقوق الإنسان الرئيسة، وهكذا صار فيما بعد مبدأ نصّ عليه العديد من الاتفاقيات الدولية على سبيل المثال:
الاعلان العالمي لحقوق الانسان المعتمد بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار 217 في 10/كانون الأول /1948 نصّ في م/10 منه على: ” لكلّ إنسان الحقّ على قدم المساواة التامة مع الآخرين ، في ان تُنظر قضيته أمام محكمة مستقلّةٍ نزيهةٍ نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه و التزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه “. و تقرر المادة أعلاه أن نزاهة القضاء و استقلاله حقّ من حقوق الإنسان الأساسية أكثر من كونها امتيازاً للسلطة القضائية.
الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية و السياسية المعتمدة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16/كانون الأول/1966 التي بدأ نفاذها من 23/اذار/1976 حيث نصّ في م/14 الفقرة (1) على: ” أن جميع الأشخاص متساوون أمام القضاء و لكلّ فردٍ الحق عند النظر في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه و التزاماته في أية دعوى مدنية تكون قضيته محل نظرٍ منصفٍ و علنيٍّ من قبل محكمةٍ مختصّةٍ مستقِلَّة حياديةٍ ، منشأةٍ بحكم القانون”.
البيان العالمي لحقوق الانسان في الاسلام الصادر عن المجلس الإسلامي المنعقد في باريس في 17/أيلول/1981 الذي جاء في صياغته: ” حق الفرد أن يلجأ إلى سلطةٍ شرعيةٍ تحميه وتنصفه وتدفع عنه مالحقه من ضررٍ أو ظلمٍ، و على الحاكم المسلم أن يقيم هذه السلطة و يوفر لها الضمانات الكفيلة بحياديتها و استقلالها.
يتبع………
تابع في الجزء الثاني:
- استقلال القضاء في النظام القضائي السنغالي:
- المرتكزات الدستورية:
- المرتكزات القانونية والإدارية:
الهوامش:
[2] تشبه هذه المؤسسة بالمجلس العليا للقضاة في عصرنا الحالي.
[3] أنور عبد الكريم عبد القادر، نظام القضاء في الإسلام، 164.
[4] عبد الوهاب خلاف، السلطات الثلاث في الإسلام، 49.
[5] مصطفى عبد الحمید دلاف، استقلال القضاء في التنظیم القضائي الإسلامي، 8.