اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الأورو إفريقية .. أو الاستعمار الجديد

مدخل:
في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي شهدت سواحل أفريقيا بروز ظاهرة أسواق تجارية (comptoirs )  نصبها الرجل الأوروبي لعرض بعض السلع وتبديلها بحاجات أخرى أفريقية، وما لم يكن يدركه الرجل الافريقي حينها أن تلك الأسواق المرتجلة وتلكم المبادلات التجارية كانت فاتحة شر على الشعوب الافريقية وفتح باب للاحتلال الغاشم والاستيلاء على الخيرات الافريقية بل واستعباد للإنسان الإفريقي .

لقد كانت ولا تزال المبادلات التجارية عبر التاريخ عوامل أساسية لفتح نوافذ استعمارية لاستنزاف ثروات الشعوب الضعيفة، ونفس المنطق يتكرر اليوم في القرن الحادي والعشرين مع المبادرة الجديدة لاتفاقيات الشراكة الاقتصادية بين الدول الإفريقية والاتحاد الأوروبي “APE.
وهذه الاتفاقيات التجارية متمخضة عن معاهدة لومي 1975م والتي استبدلت باتفاقية كوتونو 2000م  الهادفة إلى تطوير منطقة للتبادل الحر بين أوروبا ومجموعة من دول إفريقيا والكارايبي والمحيط الهادي (ACP).

وهي في صيغتها الأخيرة عبارة عن حزمة من الاتفاقيات بين الدول الأوروبية والدول النامية وخصوصا افريقيا الفرنكوفونية تتمثل في فتح الحدود بين البلدان المشتركة ورفع الضرائب الجمركية على السلع المتبادلة وغيرها من البنود التي تعمل لصالح المؤسسات الأوروبية بلا حياء ولا ضمير.

بعبارة أخرى أبسط، ستصبح السلع الأوروبية المستوردة معفية من الرسوم الجمركية مما يعني انخفاض الواردات الجماركية في الدول الإفريقية بنسبة ٢٠٪ ، الأمر الذي سيخلق عجزا ميزانيا لكثير من تلك البلدان حيث إنها تعتمد اعتمادا أوليا على حصيلة التعريفة الجمركية كما هو حال السنغال -مثلا-. والغطاء الخارجي الذي يسعى الشركاء الأوروبيون لإقناع الأفارقة بها هو كون الاتفاقيات ثنائية الطرف والأثر، بحيث يصبح السوق الأوربي مفتوحا أمام المؤسسات الافريقية وهو -كما ترى- لا معنى له إذا علمنا أن الدول الافريقية ليست صناعية وإنما دول مستهلكة. إضافة إلى أن صادراتها ضئيلة جداً لا تتجاوز ٥٪ من صادرات السوق العالمي، علاوة على ذلك فالسلع الافريقية ذات جودة ضئيلة مقارنة بغيرها بالإضافة إلى غلاء سعرها. ويبقى أن المستفيد الوحيد هي الدول الصناعية، والخاسر كل الخسارة هي الدول الفقيرة المستهلكة.

ففي الوقت الذي تغلق فيه الدول الصناعية الأوروبية أبوابها أمام الأيدي العاملة الإفريقية المهاجرة وتشدد في إجراءات التأشيرة، وترحل آلاف المهاجرين الأفارقة، وفي الوقت الذي ترفض تلكم الشركات العالمية نقل مراكزها أو حتى فتح مصانع تابعة لها في الدول الافريقية المستهلكة، نجد أن تلكم المؤسسات العالمية مدعومة بالحكومات الأوروبية وتسعى جاهدة لترسيخ أقدامها تحت تبريكات الرأسمالية الشرهة.

وبالمقابل هناك مردود -أو بالأحرى- هدايا مفخخة تقدمها الاتحاد الأوروبي بحيث ستتمتع الشركات الأفريقية من الاستفادة من فرص دخول الاسواق الأوروبية في نفس الوقت، إضافة الي تأكيدات مجلس الشئون الخارجية للاتحاد الأوروبي بتقديم نحو 5 مليار يورو الي دول غرب أفريقيا في الفترة من 2015 الي 2020 لدعمها في تحقيق التنمية. وهذه المساعدات في الحقيقة مسمومة ولا تساوي حجم الخسائر التي ستضرب الاقتصاد الإفريقي العليل في الأساس.

الاتفاقيات وآثارها المدمرة

إن لهذه الاتفاقيات آثار سلبية على المنظومتين الاقتصادية والسياسية الأفريقيتين نذكر منها :

 تدمير المنظومة الاقتصادية الإفريقية الهشة عن طريق خلق أجواء تنافسية في معركة غير متكافئة تسمح بوأد مؤسسات التمويل المتوسط والمصغر الإفريقي “PME.
ومن المعلوم أنه ليس بوسع المؤسسات الافريقية الدخول في معركة تنافسية تجارية مع نظرائها الأوروبية لعدة عوامل أبرزها: أن الشركات الإفريقية متروكة على حالها ولا تستفيد من الرعاية ولا الدعم اللازم من حكوماتها إضافة إلى ضعف الجودة في منتوجاتها مع غلاء أسعارها. في حين أن نظراءها الأوروبيين يستفيدون من المساعدات الضخمة والدعم السخي من حكوماتها علاوة على جودة منتوجاتها مع أسعار مقبولة. هذا، وستمتلئ الأسواق الإفريقية بالصناعات الأوروبية وستنافس بذلك المنتجات المحلية على ضآلتها مما يعني وأد الحلم الافريقي الذي يسعى للنهوض .

انخفاض في الناتج المحلي، وعجز في الميزانيات العامة: لاشك أن لتلكم الاتفاقيات آثارا سلبية ملحوظة في الميزانيات السنوية للبلدان الإفريقية الفقيرة. وهناك العديد من الدراسات تشير إلى خسارة في السيولة تزيد عن مليار يورو سنويا، وحسب الدراسات الدقيقة فسوف تخسر بلدا كالسنغال ما يزيد من ١١٥ مليار من إيراداتها الجمركية، بينما ستخسر مالي ٢٣٪ ، وغامبيا٢٢٪ ، وغينيا١٥٪ ، وبنين ٤٠٪، في حين أن العملاق الافريقي نيجيريا ستخسر سنويا حوالي ٨٠ مليار .

وهناك آثار أخرى تتمثل في تدهور الحالة الاجتماعية للشعوب المقهورة واستمرارية الحصار الاقتصادي للدول الافريقية ككيانات تعيش تحت وطأة الديون المتضاعفة مما يمنع من استقلاليتها الحقيقية. كما أن هناك من الباحثين من يتحدث عن احتمالية إعادة تخفيض العملة “الاستعمارية” (فرنك سيفا) كما حدث في عام ١٩٩٤م.

موقف الزعماء الأفارقة من تلك الاتفاقيات
لهذه الأسباب ولغيرها رأينا رجلا بقامة عبد الله واد – الرئيس السابق للسنغال- يعارض المشروع ويحاربه بكل قواه في حين نجد وريثه السنغالي الحالي السيد الرئيس ماكي صال- وهو المشرف على المفاوضات- متحمسا للاتفاقيات ، كما نجد غيره من الرؤساء أمثال الرئيس الكاميروني بول بيا متحمساً للتوقيع أيضاً، الأمر الذي يؤكد ما سبق ذكره من أن الدول الإفريقية تسعى بشكل فردي للالتفاف على المنظمات الإقليمية من خلال الشراكة مع الدول الصناعية الكبرى.

هذا وبالرغم من كل ما ذكرنا نجد في الوقت نفسه استعدادا تاما من زعمائنا الأفارقة لتوقيع تلكم الاتفاقيات من غير تقديم مبررات على الرغم من فصاحتهم المعهودة – وخاصة الفرنكوفونيون منهم-. وليس من سبب -في رأيي- سوى أن كلا من هؤلاء الرؤساء حريص على كرسيه والحفاظ عليه وليس لديهم استعداد لمواجهة الضغوط الخارجية، أو الثورات الشعبية الداخلية في حال جفاف الينابيع الاقتصادية الضئيلة التي تضمن رواتب الموظفين القليلين.

علما بأنه تم اغتيال أكثر من واحد وعشرين رئيساً منذ ١٩٦٣م ليومنا هذا، كما تم الانقلاب على عدد كبير من الرؤساء الأفارقة، وهم في سدة الحكم وما ذلك إلا لأنهم -في الغالب-رفضوا تنفيذ إملاءات خارجية أو توقيع اتفاقيات كانت ستقضي على الشعوب الفقيرة. فهل زعماؤنا اليوم- ونحن في الألفية الثالثة- حريصون على عروشهم أكثر من حرصهم على شعوبهم؟ وهل لديهم نخوة وشهامة نظرائهم من الآسيويين الذين كسروا حاجز الاستحمار وشقوا طريق النهوض لأوطانهم بإرادة صلبة؟ التاريخ من سيجيب على تلك الأسئلة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.