ملامحُ الوَسطيَّة في القرآن!!

 

 

أبو مدين شعيب حامد لوح

 

1- تمهيد:
غنيٌّ عن البيان أن الوسطية من الخصائص العامّة للدين الإسلامي، وتحظى بركيزة أساسية فيه بمختلف النواحي الحياتية من العقائد والسلوك والأخلاق… ولا تستقيم هذه الأمور أبدا بغياب الوسطية.
2- معنى الوسطية:
ولأهمية الوسطية ومكانتها في الشريعة فقد عُني العلماء بتحديدها لغة وشرعا، ومن معانيها في اللغة: (التوازن والعدل والنِّصف والبَين)، يقول ابن فارس: « الواو والسين والطاء: يدل على العدل والنصف، وأعدل الشيء: أوسطه ووسَطه… » (¹)، وفي القاموس المحيط: « ووسط الشيء ما بين طرفيه » (²)، ويعني أيضا: المعتدل، كما في المعجم الوسيط: « الأوسط المعتدل من كل شيء… » (³)، ويأتي بمعنى الخيار والأفضل كما في التنزيل: {قال أوسطهم (⁴)}، قال ابن عاشور: « أي أفضلهم وأقربهم إلى الخير، والوسط يطلق على الأخيَر الأفضل » (⁵)، وكل هذه المعاني توحي إلى الأفضليّة والكمالية.
وفي الاصطلاح: الوسطية بكل اختصار تعني: « التوازن بين طرفين مُتقابلين أو متضادَّين، أي: بلا وكس ولا شَطط، ولا طغيان ولا تخسير » (⁶)، بل التوازن والتوسط بين طَرفي الغُلوِّ والتقصير.
فالوسطية بهذا المعنى من مزايا الإسلام ومنهجه كونه يتَّصف بالاعتدال في جميع تشريعاته، ولا يخفى على من وقف على تاريخ الأديان أنها لم تكن تخلو من أمرين: إما أن تميل إلى طرف التقصير كاليهودية الذين قتلوا الأنبياء بخسا وتقصيرا في حقهم، أو تنحاز إلى طرف الغلو كالنصارى الذين ألَّهوا عيسى ابن مريم غُلوا.
والوسطية والحالة هذه هي التي تليق بالإسلام بوصفه رسالة جمعتْ خيرات الرسالات السابقة، وختم الله بنبيه بابَ النبوة والإرسال، وألزم على أتباعه الإيمانَ بجميع الأنبياء السابقين: {لا نُفرق بين أحد من رسله} (⁷)، كما خصَّ الله هذه الأمة أن جعلها أمة وسطا؛ وذلك تابع لتوسط منهج الإسلام ومرونة تعاليمه وشمولية دعوته.
وتعاليم الإسلام كما يقول القرضاوي: « وسطٌ في الاعتقاد والتصور، وسط في التعبد والتنسُّك، وسط في الأخلاق والآداب، وسط في التشريع والنظام » (⁸).
أما إذا أمعنتَ النظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فستجده خير مثال على تطبيق الوسطية في علاقته بالله وبالناس وفي سنته في الجمع بين الدين والدنيا والتي تظهر كثيرا في أدعيته الجامعة.
3- ملامحُ الوسطية في القرآن:
هذا، وبعد استقراءنا لنصوص الكتاب التقينا بآيات كثيرة تشير إلى هذا النهج الإسلامي، وسنكتفي بأربع آياتٍ محاولين كشف الغطاء عن مظاهر الوسطية فيها، فأول آية تدعو إلى هذه الوسطية موجودة في أول سورة من القرآن وهي سورة الفاتحة، في قوله -تعالى-: {اهدنا الصراطَ المستقيم صراطَ الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} (⁹)، فأمر الله المُصلي أن يدعوَ إلى الله أن يهديه إلى الطريق السوي المستقيم، الذي يتلخَّص في: الوقوف على الحق ثم العمل به، دون طريق المغضوب عليهم: « الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود… » (¹⁰)، وغير نهج الضالين: « الذين تركوا الحق على جهل وضلال كالنصارى ونحوهم… » (¹¹)، وهذا طريق الذين أنعم الله عليهم بنعمة الوسطية والاعتدال في تصرفاتهم، كما يقول سيد قطب: « فهو طريق الذين قسم لهم نعمته، لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حَيدتهم عنه، أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلاً إليه » (¹²).
والآية الثانية في الحث على النهج الوسطي هي قوله -تعالى-: {ولا تجعلْ يدك مغلولةً إلى عنُقك ولا تبسطها كل البسط فتقعدَ ملوما مَّحسورا} (¹³)، وهي آية دقيقة في وصف طرفي الإفراط والتفريط وتحديد منهج الوسط المطلوب في الإنفاق، يقول ابن عاشور في بيان المراد من هذه الآية في تفسيره: التحرير والتنوير: « وهذه الأوساط هي حُدود المحامد بين المَذام من كل حقيقة لها طرفان، وقد تقرر في حكمة الأخلاق أن لكل خلق طرفيْن ووسطا، فالطرفان: إفراط وتفريط وكلاهما مقر مفاسد للمصدر وللمورد، وأن الوسط هو العدل » (¹⁴)، ولا يخفى على أحد كون الوسط هو التوازن المطلوب في كل أمر، كما يبيِّن صاحب « الظلال »: « والتوازن هو القاعدة الكبرى في النهج الإسلامي، والغُلو كالتفريط يُخل بالتوازن » (¹⁵)، وجعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن شدة البخل الذي يخدش في التوازن، كما أن بسط اليد كل البسط والذي يعني إنفاق المال في غير وجهه المطلوب ينافي التوسط ويؤدي إلى وقوع صاحبه في اللوم والحسرة.
والآية الثالثة والتي ترشد إلى الوسطية هي قوله -تعالى- واصفا صفاتِ عباد الرحمان: {والذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يُقتروا وكان بين ذلك قَواما} (¹⁶)، وهي في الحقيقة تأكيد للآية السابقة في سورة الإسراء، ومعلوم أن الإسراف يمثل الغلو المنهيّ عنه، والتقتير يمثل التقصير المذموم، ولم يبق إلا ما يكون بينهما وهو: التوسط والبينيَّة بين هذا وذاك، وقد أورد سيد قطب في تفسيره: « في ظلال القرآن » كلاما حسنا: « فالمسلم مقيد بالتوسط في الأمرين: الإسراف والتقتير » (¹⁷)، ويواصل مبينا خطر كل من الإسراف والتقتير قائلا: « فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله… » (¹⁸)، وأثرهما هو اختلال واضح في المجالين: الاجتماعي والاقتصادي، يقول: « والإسراف والتَّقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي… » (¹⁹)، ثم إن الإسلام حدَّد وظيفة الفرد تجاه هذه القضية تحديدا شافيا حيث جعل التوازن علامة من علامات الإيمان: « والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سِمة من سمات الإيمان » (²⁰).
والآية الرابعة والأخيرة في الدعوة إلى التوسط هي قوله -تعالى-: {ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسنْ كما أحسن الله إليك} (²¹)، وفي هذه الآية دعوة لا تترك مجالا للشك إلى الأخذ بنصيب الدنيا والسعي لإيجاد ما يصلح عيش المرء فيها وعدم إهمال خيرات الدنيا التي خلقها الله للإنسان، كما أن فيها إشارةً إلى وظيفة تعمير الأرض وتسخير طاقتها في مصلحة البلاد والعباد، غير أن ذلك كله لا يجعل المسلم ناسيا زاد الآخرة والعمل لأجلها؛ لعلمه أن هذه دار عمل وتلك دار جزاء، ولا بد إذا من العمل لأجلهما معا، ويؤكد هذه الآية قول الله -تعالى- آمرا للمسلمين أن يدعوا بهذا الدعاء الجامع: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (²²)، ويعلق سيد قطب على هذه الآية قائلا: « وفي هذا يتمثَّل اعتدال المنهج الإلهي القويم، المنهج الذي يعلق قلب واجدِ المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة » (²³). والإحسان كإحسان الله إلينا عبارة عن المواظبة على العمل الصالح الموافق لنهج وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، دون الميل إلى الطرفين المذمومين: الإفراط والتفريط، كما يقول الشيخ أحمد بامبا -رضي الله عنه-:
ولا تكنْ مفرِّطا أو مُفرِطا = بل استقمْ في سنة وأقسِطا (²⁴)
هذا بالإضافة إلى الآيات التي تنهى عن الغلو والإفراط، كقوله -تعالى-: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} (²⁵)، إلى غير هذه من آيات ترسم معالمَ الوسطية والتوازن والاعتدال فصَّلها العلماء تفصيلا.
وهذا التوسط هو نهج كل الأنبياء والصالحين والدعاة الذين وقَّعوا عن الله المبلغين رسالته، ولا يحيد عنه إلا زائغ ضال عن جادة الصواب.
4- خاتمة:
لقد قمنا بجولة سريعة حول آيات أربعة نلمح فيها سماتِ الوسطية التي تتَّسم بها الشريعة الإسلامية في تعاليمها، ما يعني أنها بعيدة كل البعد عن طرفي الغلو والتقصير أو الإفراط والتفريط، وهذان الأمران لا يدخلان في شيء إلا شانه، ولا يفارقانه إلا زانه، وينبغي تسليط الضوء على هذه الوسطية حتى يكون المسلمون -خاصة الدعاة- على بينة من أمرها؛ ولكي يكونوا كما وصفهم الله أمة وسطا التي تشهد على الأمم السالفة، والشهادة كما لا يخفى تقتضي العدل والحِياد، جعلنا الله وإياكم من السالكين نهج الوسطية والتوازن.

الهوامش:

(¹)- ابن فارس أحمد، مقاييس اللغة، تحـ: عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر، 1399هـ-1979م جـ: 6 صـ: 108.
(²)- مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، ط:4، 1425هـ-2004م، صـ: 1031.
(³)- الفيروزآبادي محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، تحـ: مكتبة تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة، ط:8، 1426هـ- 2005م، صـ: 692
(⁴)- سورة القلم: 28
(⁵)- ابن عاشور الشيخ محمد الطاهر، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، 1984م، جـ: 29، صـ: 86
(⁶)- القرضاوي يوسف، كلمات في الوسطية الإسلامية ومعالمها، دار الشروق- القاهرة، ط:3، 2011م، صـ: 13
(⁷)- سورة البقرة: 284
(⁸)- القرضاوي يوسف، مرجع سابق، ص: 20
(⁹)- سورة الفاتحة: 6-7
(¹⁰)- السعدي الشيخ عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان، تحـ: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، دار السلام للنشر والتوزيع- السعودية، ط:2، 1422هـ-2002مـ، صـ: 27-28
(¹¹)- المصدر نفسه
(¹²)- قطب سيد، في ظلال القرآن، دار الشروق- القاهرة، ط:32، 1423هـ- 2003مـ، صـ: 26
(¹³)- سورة الإسراء: 29
(¹⁴)- ابن عاشور محمد الطاهر، مرجع سابق، جـ: 15، ص: 84.
(¹⁵)- قطب سيد، مرجع سابق، ص: 2223
(¹⁶)- سورة الفرقان: 67
(¹⁷)- قطب سيد، مرجع سابق، ص: 2579
(¹⁸)- المصدر نفسه
(¹⁹)- المصدر نفسه
(²⁰)- المصدر نفسه
(²¹)- سورة القصص: 77
(²²)- سورة البقرة: 199
(²³)- قطب سيد، مرجع سابق، ص: 2711
(²⁴)- امباكي الشيخ أحمد بامبا، مسالك الجنان، مخطوط.
(²⁵)- سورة المائدة: 79

Laisser un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée.

Ce site utilise Akismet pour réduire les indésirables. En savoir plus sur comment les données de vos commentaires sont utilisées.