لمحات في تاريخ مؤسسة القضاء الإسلامي بالسنغال (ج3)

 

بقلم الكاتب/ عمر فال

باحث بمؤسسة دار الحديث الحسينية – الرباط

 

ثالثا- مستندات أعيان المسلمين في العرائض:

وقد كان أعيان المسلمين يستندون في طلبهم إلى دليلين كبيرين: أَوَّلهما مبدأ التسامح الديني الذي ألزم المستعمرُ نفسَه به في مبادئ دستوره؛ حيث كان هذا المبدأ من أهم المفاهيم التي طُرحت في إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789، وقد سطّر ذلك الإعلان في بُنده العاشر أنه  » لا يجوز التضييق على أي شخص بسبب آرائه، بما في ذلك الدينية؛ إذا كانت لا تُخل بالنظام العام المنصوص عليه في القانون »([1]).

« Nul ne doit être inquiété pour ses opinions, même religieuses, pourvu que leur manifestation ne trouble pas l’ordre public établi par la loi »

 ومن المعروف، أن من أهم مبادئ العلمانية التي تتخذها فرنسا دينا لها، مبدأ حرية الضمير وحرية الاختيار الديني la liberté de conscience et de culte. فقد كان المسلمون يذكرون في مختلف عرائضهم قولاً يشير إلى هذه المبادئ، ورد في عريضة 1843: « لا تَسَع للحكومة الفرنسية أبدا أن تجلب إلينا بِعُنفٍ قانوناً يختلف تماما مع ديننا ولا أن تجعلنا نصارى بقوة »([2]).

وكانت السلطات المحلية تُحاول أن تُطبق -إلى حدٍّ ما- مبدأَ التسامح الديني؛ حيث بنى الحاكم الفرنسي مسجدَ سينت لوي للمسلمين. واعترف أيضا بوجود نخبة مسلمين، وكان يدفع راتبا لزعيم المسلمين الملقب بـ » تمسير » -كما يقول برنارد شينايبر في مقالته([3]).  ولكن الإشكال يكمن في احترام هذا المبدأ والتقيد بلوازمه عندما يتعلق الأمر بمجال التشريع والقضاء.

وأما الدليل الثاني فهو أن الحكومة الفرنسية قد منحت في ذلك الزمن لمسلمي الجزائر الحقَ الذي يُطالب به مسلمو سينت لوي. فقد كان للجزائريين محاكمهم الإسلامية بإزاء المحاكم المدنية الفرنسية. وكان مسلمو السنغال على بيّنة من الأمر، ويعتبرون هذه المعاملة معاملةً غير عادلة تجاهَ شعبين متساويين في خصائص دينية كثيرة. ورد في عريضة 1844 قولَهم: « وأن تعطوا لقضاتنا مثل ما وهب سلطانُكم للمسلمين في الجزيرة [الجزائر] … لأنهم مثلنا؛ ولا يترك سلطان عدله أن يتفضلهم علينا… »([4]).

رابعا- سلوك السلطات الفرنسية إزاء العرائض، ومجريات الأحداث ما بين 1832 و1857

كانت السلطات الفرنسية إزاءَ مطالبِ المسلمين بينَ « لِيبراليٍ » مسامحٍ؛ يُوافق عليها بدون قيود ولا شروط، باسم التسامح الديني المنصوص عليه في المبادئ الدستورية الفرنسية، وبينَ محافظٍ رافضٍ لها باسم التفوق الثقافي والحضاري؛ حيث يعتبرون أن الثقافة الأروبية تعلو ولا يعلى عليها، حسب نظرية « عبء الرجل الأبيض ».

عندما توَصلت السلطات المحلية بالعريضة الأولى، عقدَ المجلسُ الخاص للإدارة الفرنسية اجتماعاً بتاريخ 8 سبتمبر 1832 للنظر في القضية، بحضرة الحاكم الفرنسي سينت جرمين Saint Germain ورئيس المحكمة المدنية. وفي هذه الجلسة وافق أغلبُ أعضاء المجلس على تحكيم الشريعة الإسلامية في شؤون المسلمين المتعلقة بالزواج والميراث([5]). وبالتصويت، جاءت أغلبُ أصوات المجلس مؤيدةً فكرةَ إنشاء قضاء خاص والفصل في الزواج والميراث وفق أحكام الدين الإسلامي. فأعلن الحاكم استعدادَه لتعيين قضاةٍ مسلمين يعملون تحت رقابة المجلس البلدي بسينت لوي.

ثم تولى الحكم بمدينة سينت لوي بعد سينت جرمين حاكم آخر وهو أوبي Houbé، واقترح هو الآخر أن يتحاكم المسلمون إلى دينهم وعُرفهم وأن ينص على ذلك في القانون المدني. فأُرسل مشروع المسلمين مع مقترح الحاكمين ورأي المجلس إلى الوزارة المَعْنية بالأمر لتفصل فيه وتأخذ القرار الأخير. ولكن الوزير لم يُطاوع رأيَهم ولم يُقدم لهم أي جواب؛ فصار المشروع من المنسيات([6]).

واستمر القانون المدني الفرنسي قانونا رسميا وحيدا حاكما ومحكِّما. ولكن المسلمين، لم يتجهوا إلى المحاكم الفرنسية، وإنما اختاروا أن يُحكّموا القرآن والأعراف، وأن يتقاضوا إلى شيوخهم الذين لا صفة رسمية لهم. وعندما أدركت الإدارة الفرنسية أنهم لا يرفعون شكواهم إلى القاضي الرسمي، طلب الحاكم الفرنسي إنشاء المحكمة رسميا من جديد سنة 1844، بحجة أن القانون المدني غير صالح التطبيق على المسلمين وأنه ليس من أهلية المحاكم الفرنسية أن تُطبق الفقه الإسلامي([7])

إنشاء محكمة التحكيم

وأثناء ترقب قرار الوزير، أذِن الحاكم الفرنسي بوهيت Bouët لإقامة محكمة تحكيم tribunal arbitral بطلَب من زعيم المسلمين « تمسير » انجاي آن سنة 1843، وتولى رئاستَها هذا الأخير. وكانت المحكمة تفصل في كل قضية تضم بين طرفين مسلميْن فأكثر. ثم طلب الحاكم من الوزير أن يُشرّع في السنغال التنظيمَ القضائي الإسلامي للجزائر. فردت عليه الوزارة سنة 1845 أن هذا التجديد في النظام القضائي لا يمكن أن يتم بمجرد مرسوم من الوزارة، فأمرتِ الحاكم أن يُعدّ مشروعا مفصلا في الأمر.

ويرى الباحث برنارد شينايبر أن هذه الحماسة التي تبدو من بعض الحكام في إنشاء المحكمة ترجع إلى أنهم كانوا يتصرفون في هذه القضية تحت ضغط أعيان المسلمين بسينت لوي([8]).

ثمّ أعدّ رئيس مصلحة القانون لارشير Larcher مشروعا جديدا مفصلا كما أمرت الوزارة بتعاون مع نخبة المسلمين، فسلّموه إلى الحاكم في أكتوبر 1845، فناقشها المجلس الإداري في جلسة أبريل 1846، فعدّل بعضَ بنوده قبل أن يرفض المجلس فكرةَ إنشاء محكمة خاصة رفضا باتّا. لأن المشروع كان ليبراليا إلى حد كبير، يقدّم للمحكمة أهلية واسعة، في زمن لم يزل فيه للمحافظين حضور قوي في أماكن القرار والتنفيذ. ويبرهن المجلس على رفضه بالأسباب الآتية: أولا: أن إنشاء هذه المحكمة غير مناسب، وشيءٌ خطير يعمل على توسيع الفجوة والتفريق بين المسلمين والفرنسيين. وثانيا: أنه ستكون هذه المبادرة، إن وقعت، خطوة رجعية تخلفية؛ تُبعد السكان من الحضارة التي تصبو الحكومةُ الفرنسية إلى تحقيقها بين أوساط المسلمين([9])

علاوة على صدور القانون المدني الذي لم يستثن في حكمه المسلمين، صدرَ قانون آخر بتاريخ 24 أبريل 1843 يزيد الطين بلّة، وينص على أن « أيّ شخص ولد حرا أو تمّ تحريره بطريقة شرعية في المستعمرات، سيتمتع بالحقوق المدنية والسياسية تحت الشروط التي حددها القانون »([10]). وهو القانون الذي جعل جميع سكّان جُزر الأنتيل الفرنسية وسكّان السنغال مواطنين فرنسيين؛ يخضعون للنظام التشريعي المدني الفرنسي لا لِقضاء خاص.  فلم يأخذ هذا القانون بعين الاعتبار المقترحَ الذي قدّمه الحاكم Houbé وإنما سار على الخط نفسه مع قانون 1830، وأكدّه بلْ وحيّنه.

إنشاء اللجنة الاستشارية

وبسبب إلحاح المسلمين في مطالبهم، رأت الوزارة أنه إن كان لا بد من تحكيم القرآن وأعراف البلد، لِتَتَوَلَ المحاكمُ الفرنسية بذلك المهام. فعزمت على إنشاء لجنة استشارية تُلحَق بالمحكمة المدنية وتُستشار في قضايا المسلمين. فصدر إيفاد وزاري بتاريخ 4 ديسمبر 1847 يأذن بإنشاء هذه اللجنة ويلغي فكرة إنشاء المحكمة للأسباب المذكورة أعلاه. ومهمة هذه اللجنة تنحصر في إبداء الرأي بالقضايا المتعلقة بشؤون المسلمين، ويرجع إلى القاضي الفرنسي الأخذ برأي اللجنة أو الاستلهام منه أو إلغائه تماما([11]).

وبذلك تنكشف جليا أن الحكومة التي كانت تتظاهر أنها تحترم للمسلمين دينَهم وتسعى إلى إنشاء المحكمة، قد تراجعتْ مرة أخرى، وتمادت في التردد والتأجيل والمراوغة. وبقي التنظيم القضائي على ما كان عليه منذ سنة 1847، على الأقل في قضية المسلمين. ثم صدر مرسوم جديد 9 أغسطس 1854 يسعى إلى تجديد النظام القضائي بالسنغال، وأصرّ على وجوب استبقاء اللجنة الاستشارية التي أُلحقت بالمحاكم الفرنسية وتستشار في شؤون المسلمين. ولكن المسلمين تأكدوا من مراوغة الحكومة الفرنسية في قضيتهم، وزيف وُعودها التي لا تفِي بها؛ وفقدوا الثقة في القضاء الفرنسي، فأخذوا يتحاكمون إلى شيوخهم غير الرسميين.

 مرسوم 1857 وإنشاء محكمة المسلمين

وأخيرا نجح الحاكم فيدربُ Faidherb في إنشاء المحكمة، بمشروع أعدّه على مسار التنظيم القضائي الإسلامي في الجزائر. وهو المشروع الذي اُعتمد على خطوطه الكبرى فصار مرسوم 20 مايو 1857 الشهير. عُيّن فيدرب حاكما بالسنغال سنة 1854، وتزامن ذلك الوقت مع أفولِ وتدهوُرِ كثير من أفكار المحافظين؛ فأصبحوا يدركون أن نيَّتهم المبيتة؛ وهي تغريب السكان، لا تتم إلا في أمد بعيد، كما يقول شنيبار Schnapper.

عندما وصل فيدرب إلى الحكم وجد بقايا من أفكار بعض المحافظين وخاصة رئيس مصلحة القضاء كارّيير Carrière الذي ألف كتابا في ذلك الزمن بعنوان: « la Sénégambie Française »  يقول فيه -وهو يندد بسلوك نخبة المسلمين السنغاليين: » « عندما نرى شعبا ذكيا، قادرا على التقدم، يثبت على الهمجية تحت تأثير بعض الأفراد الذين يستغلون التحيزاتِ التي ولدوا فيها والأحكام المسبقة التي يخلقونها بأنفسهم؛ كحال الشيوخ المسلمين، بعضهم على الأقل، وَباءُ البلدان الأفريقية، الذين يخطبون برعب المسيح، ويثيرون الشك في الناس بسبب عِرقهم كل يوم، نحن غاضبون من رؤية هؤلاء المستغلين الذين يلجأون إلى القانون الفرنسي لتوجيه ضربات مؤكدة ضده… ولذلك نرى أنه قد آن الأوان أن نُقنعهم أنهم ليسوا حلفاء فرنسا بل رعاياهم، وأنهم مَدعوون إلى الطاعة بدون تقييد »([12]).

بعد دراسة عميقة لأحوال البلاد وقف فيدرب على هذه الآراء كلها، ولكنه لم يأخذ بها. ويرى الباحث شينايبر Schnapper أن الأسباب التي دفعت فيدرب إلى اتخاذ موقف مخالف متعددةٌ. منها، تحقيق مصالح اقتصادية، ومحاولة استعادة هيبة الحاكم أمام السكان المحليين، وحبّ الانتقام من الانهزامات التي عاناها الجيشُ الفرنسي في البلاد. كان فيدرب يريد أن يبعث حملات عسكرية كثيرة إلى أنحاء بلاد السنغال لمحاربة المقاومين وتوسيع حدود الاستعمار، ولم يكن لديه من القوة العسكرية إلا قليل. فأراد الاعتماد على سكان سينت لوي لمحاربة المقاومين من أهل المناطق الأخرى ودحض شملهم([13]).

صادف موقف فيدرب هذا أن طالب المسلمون من جديد إنشاء المحكمة، وتضامن معهم فيدرب وأيّد طلبهم بكل سلطته؛ فكتب رسالة بخصوص القضية إلى الوزير بتاريخ 13 سبتمبر سنة 1856، يقول له:  » يبدو لي أنه لا يمكن، بمعايير سياسة جيدة، أن نرفض لمسلمي سينت الفضلَ الذي منحتْه الحكومةُ الفرنسية لمسلمي الجزائر الذين يعادوننا من أعماق قلوبهم…  بينما مسلمو سينت لوي يكرسون لنا جهودا بإخلاص؛ لأن مصالحهم تتطابق مع مصالحنا. ونحن في أمس حاجة إلى مساعدتهم لكي نبقى في هذا البلد الذي لا نملك فيه سوى القليل من القوة العسكرية… ومن ناحية أخرى، الأمر لا يكاد يكون أكثر، مع الأسف، أنه يجب علينا أن نقدم هذا التنازل الضروري لدينٍ مزعجٍ [الإسلام] بسبب عدم تسامحه. وكما يجب علينا أن نقدم أقل قدر ممكن »([14]).

أُعدّ المشروع في وقت قصير، ثم تلقى تعديلات من هيئات مختلفة: مكاتب الوزارة، المجلس الاستشاري للمستعمرات، وزارة العدل، والمجلس الإداري بالسنغال. ويبدو أن الحاكم فيدرب، لوضوحه في الموضوع وشفافية خطابه، نجح في الإقناع، ولم يتعرض المشروع لمقاومة كسابقه. فصدر النص الأخير للمشروع بمرسوم 20 مايو 1857، ودخل حيز التطبيق في السنغال بتاريخ 23 يونيو بالسنة نفسها. وهو النص الذي استمر تطبيقه لمدة خمسين سنة بدون تعديل.

 وبموجب هذا المرسوم قامت المحكمة، وكانت تتكون من قاضٍ وقاض مساعد وكاتب ضبط. وهي تختص بممارسة القضاء على الأفراد المسلمين في القضايا المدنية من الزواج والميراث والهبة والوصايا. وأما الاستئناف فيُفوض إلى مجلس يتكون من الحاكم ومستشار من المحكمة الإمبراطورية، ومدير شؤون المحلية والزعيم الديني للمسلمين. وخُوّلت للمسلمين خِيرة التقاضي إلى المحكمة المدنية الفرنسية حتى في المواضع التي تختص بها محكمة المسلمين. وإذا وقع نزاع بين الأطراف في المحكمة المختصة بقضيتهم يرجع إلى رئيس البلدية تحرير محل النزاع وتوجيهم إلى المحكمة المختصة بها. وفي حالة اختيار المسلم التقاضي إلى المحكمة المدنية الفرنسية، تلجأ المحكمة إلى التعاون مع نائب القاضي المسلم باعتباره عندهم قاضيا مساعدا. وحكمه يُستأنف عند المجلس الاستئنافي. ثم حدد المرسوم في الختام رواتبَ القضاة ووجوب اتخاذ سجلات معينة.

وأول من ولي القضاء بمحكمة المسلمين رسميا هو الشيخ أحمد انجاي آن من سنة [1857 – 1879] ثم ابن المقداد سيك من [1879 – 1880]، ثم القاضي انجاي سار المتوفى سنة 1903.

خاتمة

هكذا أدّى نضال أسلافنا الغيورين على خصوصياتهم إلى إنشاء نظام قضائي إسلامي خاص لهم في ظل الترسانة القانونية الكبيرة التي أتى بها المستعمر. ويقول الدكتور عبد العزيز كيبي إن سبب تسويف الحكومة الفرنسية بإقامة المحكمة ومحاولتها استغلالَ القضاءَ الإسلامي لمصالحها، يرجع إلى الجهل عن أثر الدين الإسلامي في المجتمع السنغالي ونفوذه في تصرفات الناس([15]).  

هذا، ويردّد كثير من المثقفين السنغاليين كلامَ الباحث الفرنسي شينايبر السابق، ومفاده أن محاكم المسلمين لم تُنشأ إلا لأغراض اقتصادية وأخرى سياسية محضة([16])؛ ومن أهم حجج من يتلبس منهم بالنزعة العلمانية -في اعتراضهم على مطالب التعديل في تنظيمنا القضائي- أنه لم تَقم قط في أرض السنغال مؤسساتٌ قضائية إسلامية معتبرة عبر تاريخ هذ البلد. وأن تلك التي أقامها المستعمرُ لا تصلح أن تكون مرجعا صادقا صالحا للاتجاه الإسلامي، وأن أثر الفقه الإسلامي على الأعراف السنغالية ظل محدودا ومَرِنا([17]). ولكن عند دراسة القضية دراسةً موضوعية بنظرة فاحصة، وعند تتبع مجريات الأحداث التي أفضت إلى إنشاء أول محكمة للمسلمين في غرب إفريقيا، يتبين أن هذا الكلام مجرد دعوى لا أساس لها، لأسباب منها:

أولا: أنه قد جاءت نشأة هذه المحكمة من طلبات ملحة ومتكررة، وفي سنوات مختلفة؛ حيث مرّ ما بين العريضة الأولى وبين إقامة المحكمة رُبعُ قرن. مما يدل على أن الحكومة الفرنسية لم تكن متسامحة فيما يتعلق بنظامها التشريعي، ولم تُقم هذه المحاكم تبعا لتوجهها القضائي. وإنما السبب الأساس الذي دفع جماعة المسلمين إلى كتابة العرائض هو صدور القانون المدني الفرنسي عام 1830 والتعديلات التي لحقته عام 1843، التي تجعل سكان السنغال مواطنين فرنسيين؛ لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.  

ثانيا: يتمثل الدليل الثاني في المستندات القوية التي كان يستند إليها المشيخة في عرائضهم؛ فقد كانوا على بيّنة واضحة بما يجري في البلدان الأخرى التي استعمرتها فرنسا كالجزائر. وكما كانوا على بيّنة بالأصول التي قام عليها الدستور الفرنسي؛ والتي تنصّ بالوضوح على وجوب احترام الحريات الدينية.

ثالثا: أن الإدارة الفرنسية حاولت شفاء غليلهم بمختلف الوسائل من إنشاء محكمة التحكيم سنة 1843، ثم اللجنة الاستشارية سنة 1847؛ ولم يرض بها سكان المدينة، بل ظلوا يتقاضون إلى القضاء الإسلامي عند « تمسير » كما رأينا. الشيء الذي دفع مدير المستعمرات أن « يضرب على الطاولة » ويعلن أنه يصعب إجبار المسلمين ليقوموا بالتسجيل اللازم في الحالة المدنية، وأن الحلّ الأمثل للصدّ عن إحجامهم هو إنشاء المحكمة المنشود إليها.

رابعا: كلام الحاكم فيدرب Faidherb نفسه، الذي يُشار أنه أنشأ المحكمة لمصالح اقتصادية وسياسية، يدل على أن هذه الدعوى مجرد تقليد أعمى؛ يقول فيدرب في رسالته : « يجب علينا أن نقدم أقل قدر ممكن ». ويرى أيضا في الرسالة نفسها أن الاستمرار في رفض مطالب المسلمين يٌخالف معايير السياسة المثالية.

وقد ارتأتِ الحكومة السنغالية أن تحذف تلك المحاكم من المنظومة القضائية السنغالية بعد الاستقلال، وأن تجعل مكانها « غرفا خاصة لقضاء السلام »([18]). Chambres spéciales des justices de la paix. وقد لحقت مؤسسة القضاء الإسلامي بالسنغال منذ الاستقلال إصلاحات عديدة وآخرها في سنة 2015، ولكن وظيفة القاضي المتخصص في الفقه المالكي ظلت قائمة وسارية المفعول إلى الوقت الراهن([19]).  إلا أنّ من الواضح أن وظيفة القاضي التي احتُفظ بها بعد التعديل، والتي ــ فضلا عن كونها هامشية ــ لا تُغطي تماما دور محاكم المسلمين القديم. لأن هذه الأخيرة كانت تحكم في جميع المنازعات والقضايا التي تمت صلة بالأسرة أو بالحالة المدنية، بينما يقتصر الأمر في الوضع الحالي على حمل لقب القاضي، لكنه في حقيقة الأمر ليس أكثر من مجرد مستشار يُؤخذ برأيه ويرد إلا في حالات قليلة. ولا وجه لمقارنة وظيفته الحالية بمكانة القاضي في محاكم المسلمين المحذوفة.

 

الهوامش:

[1]))  La declaration des droits de l’homme et du citoyen 1789.

[2])) عريضة 1843

[3])) Bernard Schnapper, les tribunaux musulmans et la politique colonial p: 93

[4])) عريضة 1844

[5])) Bernard Schnapper, les tribunaux musulmans et la politique colonial p: 94 – 95.

[6])) المرجع السابق

[7])) المرجع السابق

[8])) المرجع السابق

[9])) المرجع السابق

[10])) المرجع السابق

[11])) المرجع السابق

[12])) Bernard Schnapper, les tribunaux musulmans et la politique colonial. P: 104

[13])) المرجع السابق

[14])) المرجع السابق

[15])) Abdoul Aziz Kébé, les tribunaux musulmans du Sénégal p 135, tome 2.     

[16])) Mamadou Dia, Islam société africaine et culture industrielle (édition africaine) p: 89

[17])) Marième N’Diaye , (2012) ambiguités de la laïcité sénégalaise: la réfférence au droit islamique (in Baudouin Dupret, La charia aujourd’hui) p: 212 – 214.

كما نجد مثل هذا الكلام عند الباحثة مَرِ برُوسِّي في الفصل الأول من أُطروحتها:

Les débats sur la réforme du code de la famille au sénégal : la redéfinition de la laïcité comme enjeu du processus de democratisation (2004).

[18])) loi sénégalaise n°1961/13 du 10 mars 1961

[19])) المرسوم رقم 2015/ 1145 بتاريخ 3 أغسطس 2015.

Laisser un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée.

Ce site utilise Akismet pour réduire les indésirables. En savoir plus sur comment les données de vos commentaires sont utilisées.