لأجلِ دينٍ إنسانيٍّ، ووطنٍ متعايشٍ…

(*) سرين الفاضل  المأمون جوب

     من الواجبات الإنسانية على كلّ شخصٍ أن يتعايش مع أخيه الإنسان، تحت سقف الرحمة والإنسانية، أياًّ كان دينه، مذهبه أو توجّهه. ويأتي القرآن الكريم في الصدراة لتأكيد هذا المنطق النبيل، حيث قرّر البرّ والقسط مع غير الظالمين من الكفار في قوله: )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( [الممتحنة : 8]، ويؤكدُ مبدأ حرية الاعتقاد دون إكراه أحدٍ في قوله: )لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ( [البقرة : 256]، وقال مؤكداً: )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ( [يونس : 99]، كما يحثُّ بالعدل والقسط مع غير المسلمين في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( [المائدة : 8]، والآيات التي تؤكّدُ هذا المنطق الإنسانيّ أكثرُ من أن تُحصر في هذا المقام.

وكلّ من يعرف القليل من السيرة النبوية يدركُ مدى تطبيق النبي -صلى الله عليه وسلّم -لهذا المنطق النبيل، فلم يبدأ قط بالاعتداء على الآخر، ووثيقة المدينة المطوّلة التي تُعتبر أولَ دستور للمواطنة في الإسلام شاهدة على ذلك حيث اتخذتْ يهودَ المدينة  أمةً مع المسلمين، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. [يراجع: السيرة النبوية، ابن كثير، ج2، ص321-323].

ولما تغيّرَ الواقع بظلم الكفّار وخيانة يهود المدينة، اقتضى ذلك تغيّراً في الخطاب، فقال تعالى: )أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [الحج :39-40]، وقال مؤكداً: )أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ( [التوبة : 13]، فلو عادوا إلى العدل والقسط عُدنا إلى التعايش الإنساني والتكامل الحضاري، والدعوة إلى الله على أساس الحكمة والموعظة الحسنة كما في قوله تعالى: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ( [النحل : 125]، لأنّ الأصل بقاء ما كان على ما كان.

     ومن ذلك ندركُ أن الشرطَ الوحيد الذي ينبغي أن نضعه على طاولة التعايش السلمي والمعاشرة الإنسانية هو عدم اعتداء جهة معيّنة على الأخرى  خلافَ المفهوم الخاطئ السائد عند البعض.

     هذا عن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، أما عن علاقة المسلم بأخيه المسلم فالاختلاف فيه شيء طبيعيّ جداً، ولستُ في حاجة إلى أدلة تثبتُ ذلك، فقد اختلفتْ تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم ذاتها في بعض الأمور، واختلف الصحابة  -رضوان الله عليهم- في فهم أفعال النبي-صلى الله عليه وسلم- من أمور دينيةٍ ودنيويةٍ، ويزيد الاختلاف مع عصر التابعين، ويتزايد في زمن تابعيهم، واختلاف المذاهب والاتجاهات في عصرهم يكفينا شهادةً على ذلك، وكلُّهم يرى أن ما عليه هو ما كان عليه النبي- صلى الله عليه وسلم-، ويبقى هدفُ الدفاع عن الإسلام ونشره هو الحبل الأساسي الذي يجمعهم.

أمّا عن شيوخ السنغال، فمن قرأَ النذر القليل من مؤلفاتهم أو قصائدهم؛ يدرك جيداً أنّ ما كانوا عليه هو مذهب أهل السنة والجماعة، باتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وترك البدع  والأهواء في الدين، والأدلّة على ذلك أكثر من أن يعدّ أو يحصى.

 ومن ذلك كلامُ أحدهم الشيخ أحمد بامبا:

وَاجْتَنِبُوا أَهْوَاءَ نَفْسٍ وَابْتِدَاعْ …….. وَاجْتَهِدُوا فِي كُلِّ حِينٍ بِاتِّبَاعْ

إذْ جُمـــــــــــــعَ الخَيْرُ فِي الاتِّبَاعِ …….. وَجُمِعَ الشَـــــــّرُّ فِي الاِبْتِدَاعِ

فكانوا ينتهجون عقدياً بمنهج الأشعرية، وفقهياً بمذهب المالكية، وسلوكياً بطريقة التصوف السني، فمن يرى أن المذهب الأشعري الذي عليه السواد الأعظم من المسلمين ضلالٌ وبطلان، وأن المالكية مذهب باطلٌ، وأنّ كل المتصوفة ضلّوا وأضلّوا، وأنَّ ما أنتَ عليه فقطْ هو الصحيح السليم، بل هو وحده هو الإسلام؛ فلا عجبَ من أن تضلّل هؤلاء الشيوخ الذين سهروا الليالي لنشر الدعوة الإسلامية وتعاليمها، حتى أصبح السنغال من أكبر دول العالم نسبة للمسلمين، والحمد لله.

بيد أنّهم رغم كلّ تلك المجهودات التي حقّقوها في سبيل خدمة الإسلام يبقون أئمةً مجتهدين، يصيبون ويخطئون، وليس ذلك بعيبٍ يتوسّم في وجوههم، فلقد أصاب وأخطأ قبلهم  كبارٌ منَّ العلماء والأئمة، وعظماءٌ من التابعين والصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-، فليسوا أنبياءً معصومين، ولا ملائكة كراماً. ولو لم يكنْ لهم من الفضل غيرُ إخلاصِ النية وحسنُ المقصدِ لكفاهم، ولاستحقوا بذلك كلَّ تقديرٍ واحترامٍ.

أما عن الشعب السنغالي فقد جهلَ أكثرهم تلك التعاليم، ومالوا عن الطريق التي انتهجها أسلافهم، ذلك لكونهم يجهلون مغزى تلك المؤلفات التي دُوّنت باللغة العربية، ومعلومٌ (أنَّ التصوّف بلا علمٍ لا يكون)، كما تضاف إلى ذلك قلة الكوادر الذين يوجّهونهم في خضم هذا التراث العظيم على أساس منهجٍ صحيح، مقابلَ كثرة القصّاصين الجهلة الذين لا يملكون هدفاً أسمى من تضليلِ الشعب عن قصد أو جهلٍ مركب، بيد أنّ الوازع الديني لا يزال في قلوبهم، ومحبة الإسلام لا ينفكُّ في نفوسهم، وهذه الميزة التي أنعمه الله على الشعب السنغالي هي التي تسّهل للدعاة عمليةَ الإصلاح والإرشاد، شريطةَ أن يتبعوا المنهج الإصلاحي السليم، الذي يراعي خصوصيات الزمان والمكان، ويخاطب الشعب على ما يناسبُ وعقلياتِهم، ويتجاوب مع مشاعرهم ونفسياتِهم، إذْ ليس من المنطقيّ أن يُطعن في شيوخهم وأئمتهم الذين لولاهم لما كان لهم إلى نعمة الإسلام من سبيل، ولدُفنوا مع متاهات الكفر، وضلالات الشرك.

 فكلّ ما علينا نحن -كدعاة- أن نوضّح لهم تلك التعاليم الصحيحة، وننير لهم الطريق، مراعين للخصوصيات والظروف الزمكانية، بدلَ أنْ نحطّم كل ما سهر أسلافنا في ترسيخه، ونتناطح فيما بيننا على حساب اختلافات مذهبية، وتوجّهات فرعيةٍ اختلف فيها كبار العلماء منذ القرون الأولى، وصُنفت فيها مصنفاتٌ مؤلَّفةٌ دون التوصّل إلى نتائجَ متفقةٍ عليها.

فليكنْ مبدؤُنا قولَه تعالى: )وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( [فصلت : 33].

     وشعارنا القاعدة المنارية: «نتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه».

لأجل إسلام رحمة وإنسانية وعدل وتعايش وخيار، لا إسلام تكفير ووحشية وظلم وانغلاق وإكراه.

(*) باحثٌ في كلية الدعوة الإسلامية  /طرابلس الغرب-ليبيا

fadhilloumamoune@gmail.com

Laisser un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée.

Ce site utilise Akismet pour réduire les indésirables. En savoir plus sur comment les données de vos commentaires sont utilisées.