شيخ الكُّتاب والدولة.. العقدةُ المتسلِّطةُ

محمد بشير جوب

أحدثت قضية « قيد الطلاب بالسلاسل » في إحدى الكتاتيب القرآنية موجة من انتقاداتٍ واسعة النطاق في المجتمع السنغالي، وعادت في الواجهة ملاسنةٌ بين شيخ الكُّتاب والدولة. وهذه القضية ليست إلا صفحةً جديدةً من صفحات التاريخ التي تتكرر وتأخذ أشكالاً مختلفة. فالعراك بين شيخ الكُّتاب والدولة حقيقةٌ تاريخيةٌ لا يمكن إنكارها، وهذه الحقيقة التاريخية بنفسها شكَّلت مفاهيم خاصة في المجتمع السنغالي، وهذه المفاهيم تتطور وتختلف متأثرة بالصيغة التي يتبناها كلٌّ من الطرفين على حدة. في الوقت الذي يروج فيه كل طرفٍ عن نفسه ويعلن مهمته ويسعى لنشر ما يعتبره رسالته التي هي الهدف من حياته.

وشدة تشبُّث كل طرفٍ بفهمه وطرحه، وصلت إلى مستوى التعنُّت القاسي عند البعض، وسبب هذا العناد أزمة في الثقة بين الطرفين. ومع تراكم أزمات الثقة في النفوس، تمكنت في الطرفين عقدةٌ متسلّطةٌ تتحكَّم في تحركات بعض المعنيين بالأمر.

البحث عن المسؤول

        أول ما يخطر بالبال عند العامة أثناء حصول مشكلة معينة في أي مجتمع هو البحث عن المسؤول، وبعد استفراغ الوسع في البحث عن المسؤول المجهول، قد تختلف اتجاهات الأصابع في الإشارة إلى المسؤول. وهو أمر طبيعي نتيجة اختلاف القناعات والمنطلقات. وفي هذا الخضمّ كثيرا ما تضيع المصداقية، وتغيب الأمانة، وتُبكى على الرجولة. لغياب طرفٍ مسؤول عن فعله، أو واحدٍ صدوقٍ مع نفسه يصدع ويقول أنا المسؤول؛ ثم يتحمل تبعات الفعل. وفي هذه القضية بالذات عادت الكرة من جديدٍ فتم ترامي التهم بين شيخ الكتاب والدولة، فعندما يصرح القائمون بشأن الكتاتيب بتقاعس الدولة وعدم القيام بالدعم اللازم للكتاتيب وقيامها بالكيل بمكيالين؛ ترد الدولة عليهم المسؤولية، بسبب تبنِّيهم وسائل عفا عنها الزمن في أسلوبهم التربوي. ولا ينفك أي من الطرفين في صياغة حججه لدعم موقفه المقدس، والذي اعترته أوهانٌ غير محسوبة. 

شيخ الكُتّاب ووهم التقديس

القرآن الكريم مقدسٌ بذاته ووصفه، وهو كلام البارئ الحائز لكل الأفضال، ولا يصح إيمان المرء إلا بالإيمان به، واتخاذه دليلا لحياته. وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته وفي مقدمتهم حفاظه في الصدور أو في السطور، وكل عمل متصل بالقرآن يحظى القائم به الفضل والاعتبار في المجتمع المسلم. هذه حقيقةٌ  ثابتةٌ في الشرع والعرف ولامجال لإنكارها، وأؤكدها هنا وأومن بها تمهيدا لما سيأتي دفعاً لأي مزايدةٍ في حقي.  

الاستسلام للحقيقة السالفة الذكر يستتبع الإيمان بأن أمر القرآن الكريم يجب أن يكون شأنا عاما يهمّ كلّ مسلمٍ. لأن مجاله فسيح يسع الكثير، والحفاظ عليه وتمكين تعاليمه في الأرض أوسع من أن تحتكره مجموعةٌ معينةٌ. والعمل في تعليمه وتعلّمه – مع علوّ شأنه- لا يجعل القائم بهذا العمل مقدسا، بحيث لا يجب نقده أو إعادة النظر في أمره، وإخضاعه للمساءلة إن اقتضى الأمر. فلا توجد علاقة تلازمية بين نقد الأسلوب والقائم بالأسلوب وإعلان الحرب على القرآن أو بُغض أهله. فتعليم القرآن وتحفيظه مسألة علمية كسائر المسائل العلمية، وهي خاضعة للتقييم والتطوير والاستجابة لضرورات الواقع.

يخطئ شيخ الكتاب إذا ظن أن أسلوب عمله هو الدليل على حبه للقرآن. أوينظر بعين الوجس كل نقد للأسلوب أو كل محاولة للتغيير، أويؤلب العاطفيّين على أصحاب الدعوات الإصلاحية، بدعوى أنهم يحاربون القرآن، أو ما شابه ذلك من أوصاف مُنفِّرة. 

الشعور بالمسؤولية يقتضي الإصلاح والتغيير إلى الأحسن، وخطوة التغيير الأولى تبدأ من شيخ الكتاب نفسه؛ من خلال إشراك التخصصات المختلفة، وتوريط مسؤولية الدولة في  العملية الإصلاحية.

ثُلْم الدولة 

          تقع على عاتق الجمهورية المسؤولية الدستورية في تعليم جميع أبنائها على حدّ سواء، دون تمييز بين المتعلمين أيا كانت المادة العلمية، إلا أن انعكاسات الاستعمار الغربي جعلت البناء  الدستوري السنغالي منخورا. فلم يستوعب الدستور شريحة الدارسين باللغة العربية عامة، والمتعلمين في الكتاتيب بشكل خاص. ومع تعاقب الأجيال، لم يتسن للمعنيين بالأمر في الدول استدراك هذه الثغرة القانونية.

لكن الإنصاف يقتضي القول بأن المبادرات التي قامت بها الدولة مؤخرا، بداية من تبني التربية الدينية في المدارس الحكومية منذ عام 2002، ثم إنشاء إدارة خاصة تهتم بتطوير المدارس القرآنية عام 2004 يقوم بأمرها موظفون من حفظة القرآن وحملة الثقافة العربية الإسلامية، وصولا إلى تعيين مدير لمفتشية المدارس القرآنية التابعة لوزارة التربية والتعليم الوطنية عام 2008 يمكن اعتبارها خطوة في الاتجاه الصحيح. ومعلوم أن نجاح الخطة يتوقف على دعم شيخ الكتاب بنفسه لهذه المبادرة من حيث المشاركة والأخذ والرد للوصول إلى الصيغة التي يرتضيها.

ولكن الملحوظ هو التلكؤ الشديد من بعض الفاعلين الرئيسيين من شيوخ الكتاتيب تجاه هذه المبادرة دون تقديم بديلٍ مناسبٍ، بل الاكتفاء فقط بنقد الموجود. رغم أن الحرص على حفظ بيضة الدين والقرآن يقتضي التوجس أحيانا؛ يجب العلم أيضا أن المبالغة في قراءة نيات الأخرين قد تؤدي إلى الجمود في المواقف وانسداد الطرق المؤدية إلى الحلّ.

حلْحلةُ المعضلة

من أبجديات علوم المناهج التربوية أن أي منهج تربوي يجب أن ينبثق من فلسفة المجتمع المعنيّ، ومن الأسف الشديد أن نجد شرخا كبيرا بين المنهج التربوي الرسمي الحكومي وفلسفة المجتمع السنغالي وقيمه وتقاليده. وهذا ماجعل ثلّة من المجتمع السنغالي يرضون توجيه أبنائهم إلى المدارس الأهلية العربية أو إلى المدارس القرآنية للتحصيل الديني. ومع ذلك لا يخفى على ذي بصيرة أن مناهج وأساليب الكتاتيب القرآنية تحتاج إلى التحديث لمواكبة الواقع. وإلا فهي عرضة للوقوع في أخطاء متكررة تشوه القرآن وأهله، ولا يمكن تبريرها حتى بالعاطفة الجياشة.

وفي هذا الصدد فجلوس الطرفين على الطاولة، ومواجهة المشاكل التي تشغل الكتاتيب القرآنية أمر محتومٌ. وللخروج من عنق الزجاجة – في نظري- يجب التركيز على بعدين رئيسين للوصول إلى إطار إصلاحي شامل، يكون دور شيخ الكتاب ودور الدولة حاسماً في تحقيقه.

أولا: البعد القانوني

الكتاتيب القرآنية مع عراقتها ووظيفتها المهمة لاتتمتع بأي وضعية قانونية محددة، فهي تُركت مهملة دون أي تنظيم قانوني حتى مؤخرا وتحديدا في 2016 عندما وقع أبرز ممثلي الكتاتيب القرآنية وشخصيات الحركات الإصلاحية مع الحكومة ممثلة من وزارة التربية الوطنية في جلسة وطنية على المشروع القانوني الأساسي للمدارس القرآنية. وهذه هي الخطوة الأساسية التي لايمكن إغفالها إلى أي خطوة أخرى في العملية الإصلاحية. لأن كل المؤسسات التربوية العامة والخاصة الدينية وغير الدينية تخضع للدستور السنغالي كما أشار إلى ذلك الدستور في موادها الثلاثة رقم 21-22-23 . وعليه لا يمكن بأي حال من الأحوال استبعاد مسؤولية الدولة عن المدارس القرآنية. ومن الناحية القانونية فالدولة فقط هي التي تستطيع إصدار القانون وتفعيله لتكون للمدارس القرآنية اعتبارها القانوني والمؤسسي. وبذلك يمكن التمييز بين الحابل والنابل من الكتاتيب. ثم الالتزام بالاستحقاقات المادية تجاه هذه المدارس إذا لزم الأمر.

ثانيا: البعد التربوي

إذا سلَّمنا أن تعليم القرآن وتعلمه عملية تربوية نصل إلى نتيجة حتمية مفادها أن هذه العملية يجب أن تخضع حتما للنظريات التروبوية، ويفتح أيضا المجال للاستفادة من أي علم من شأنه أن يحسن عملية تعليم القرآن وتعلمه. ولقد اطلعتُ على عملٍ جليلٍ قامت به مفتشية المدارس القرآنية التابعة لوزارة التربية. تمخض من هذا العمل دليلٌ بيداغوجيٌّ شامل تناول المراحل التعليمية للطفل عندما يبدأ التعلم إلى المرحلة النهائية. وهذا العمل البشري لا شك غير منزَّه عن الخطأ وهو قابل للتطوير والتقييم والمراجعة، ورغم أني لا أزكيه أرى أنه بداية موفقة لإصلاح المنهج التربوي للمدارس القرآنية، وبدعم من المختصين وذوي الشأن يكون الوصول إلى نتائج إيجابية أمرا متصورا. 

وختاما

النظرة العاطفيَّة للمشاكل الاجتماعية لاتؤدي إلى حلول، وبالتالي لكيلا يصل الأمر إلى طريق مسدودٍ، أو تنفجر أزمةٌ مجتمعيةٌ يكون الطفل –أهم شريحة من شرائح المجتمع- كبش فداء فيها؛ فقد حان الوقت للمسؤولين من كلا الطرفين قبول الواقع والبحث عن أنجع سبلٍ لوضع حدٍّ لمشكلة المدارس القرآنية أو للتقليل منها. 

Laisser un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée.

Ce site utilise Akismet pour réduire les indésirables. En savoir plus sur comment les données de vos commentaires sont utilisées.