دعوتنا والحاضنة الاجتماعية

(*) عبد القادر نجاي

لا بد لأي دعوة إصلاحية لكي تنجح في نشر أفكارها ومبادئها وتحقيق أهدافها من أن ترتكز علي قاعدة بشرية صلبة من الأنصار والمتعاطفين معها. تتبني مشروعها وتعمل على نشرها وتسهر على حمايتها والدفاع عنها. وتوفر لها الوقت والجهد والمال وتضحي بالنفس والنفيس في سبيل بقاءها وانتصارها. وتسمي هذه القاعدة البشرية المتبنية للفكرة أو المتضامنة معها ب(الحاضنة الإجتماعية) وهي ركيزة أساسية لنجاح أي فكرة أو مشروع إصلاحي. فهي بلغة الفنون العسكرية تعتبر الخط الإمدادي الأساسي لها الذي تمدها بالمستلزمات الضرورية لتبلبغ رسالتها وتحقيق أهدافها من الموارد البشرية والإمكانات المادية والأدبية. وهي كذالك الخط الدفاعي الأول لها الذي تحميها من مكر أعدائها ومناوشات أعدائها. يقول الكاتب الأمريكي روبرت غرين:

الجموع هي الدرع الحقيقي الذي تحتمي به من الأعداء.

ولله در القائل:

أخاك أخاك إن من لا إخا له

كساع إلي الهيجا بغير سلاح

وفي أوقات المحن والشدائد سواء علي مستوي الأفراد أو الجماعات تشتد الحاجة إلي تضامن الناس ومواساتهم وتظهر أهمية كسب ولائهم وعطفهم. يقول الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله تعالي: (إن أعباء الدنيا جسام والمتاعب تتنزل بالناس كما يهطل المطر فيغمر الخصب والجدب. والإنسان وحده أضعف من أن يقف طويلا تجاه هذه الشدائد. ولئن وفف طويلا إنه لباذل من الجهد ما كان في غني عنه لو أن إخوانه أهرعوا لنجدته. وفد قيل: المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه).

وتحتاج الدعوة الإسلامية إلي قاعدة شعبية عريضة تؤمن بها وتدعو إليها وتبلغ رسالتها وترفع لواءها. وبتضحياتها وإخلاصها بعد نصر الله تعالي يتمكن الدين ويعلو شأنه. قال الله تعالى:

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ). وقال تعالي:

(وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ). إلا أن ما يميز الدعوة الإسلامية عن غيرها في علاقتها مع الناس هو أن هدايتهم إلي توحيد الله تعالي وإخلاص العبادة له التي خلقوا لأجلها ليقوزوا بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة هي غاية رسالتها ومقصد شريعتها. لقد جاءت لتهديهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان إلي نور الإيمان والتقوي والطاعة. جاءت لتخرجهم من عبادة العباد إلي عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلي سعتها. فهي رحمة تسعدهم وهدي يرشدهم ونور يضيء لهم الطريق. ولا تتحقق للبشر سعادة الدنيا ونعيم الاخرة إلا بالتمسك بها والعمل بتعاليمها. يقول الله تعالي:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا*فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا). ويقول تعالي:(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) ويقول جل شأنه:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). ويقول النبي صلي الله عليه وسلم: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبي. ويقول عليه الصلاة والسلام: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.

هذا وتمر دعوتنا الإصلاحية في السنغال في الوقت الراهن بظروف حرجة تجتاحها فيها موجة عارمة من التشهير الفاحش بها والاستقطاب السافر ضدها لتأليب الجماهير وتحريضهم عليها وعزلها اجتماعيا وتشويه صورتها وسمعتها. وقد ألقت المعطيات الإقليمية والدولية بظلالها علي الساحة السنغالية من تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا والنزعات اليمينية المتشددة من جهة. و صعود الجماعات الدينية المتطرفة من جهة أخري. وتم شن حملة شرسة باستغلال الظروف الراهنة لإلحاق الضرر بالدعوة وإحراج أنصارها من سياسي انتهازي يلعب بورقة الأكثرية الطائفية لكسب المزيد من دعم المؤسسة الدينية التقليدية وتأييد الجماهير له. ومن مثقف مأجور يتاجر بالحساسيات المذهبية ويعمل لصالح جهات داخلية وخارجية تري في الدعوة خطرا عليها وعلي مصالحها. ومن رجل دين مضلل أو رجل أعمال خرافة استثمر رؤوس أمواله في تجهيل الناس واستعبادهم ويلعب دور المحامي والمدافع عن تراث الأجداد  يخاف علي جماعته وأتباعه من الدعوة أن تحرر عقولهم وتنير بصائرهم وتجندهم لرسالتها. إن صد هذه الحملة الشرسة ضد الدعوة ومواجهتها وتفويت فرص النجاح عليها يتطلب منا العمل الجاد والسعي الحثيث لبناء ظهير شعبي واسع لدعوتنا وتلاحم مجتمعي قوي معها.

وإذا عرفنا أهمية الحضانة الإجتماعية لدعوتنا من الناحية الإستراتيجية وتوصيفها ومكانتها من الناحية الشرعية وضرورتها من الناحية الواقعية ألحت علينا الحاجة لمعرفة سبل ووسائل بناءها تحقيقها. وهذا ما نحاول تسليط الضوء عليه في السطور التالية من خلال ثلاثة عناصر رئيسية تشكل في مجموعها شعارا جامعا للدعوة تتميز بها وتلخص منهجها وفلسفتها وترسم استراتيجيتها العامة.
الانتماء لا القطيعة.
إن التغيير مهما كان نوعه أو مرتبته ثوريا كان أم إصلاحيا شيء حساس ومخيف تنفر منها الطباع وتشمئز منها النفوس. إنه يحرك فينا مشاعر الغضب والنخوة. ويبعثنا على العناد والمكابرة. ويشعل فينا الحماسة لإثبات الوجود والتشبث بالموروث. يقول الكاتب الأمريكي، روبرت غرين:
*التغيير مجهد للطبيعة البشرية ولو كان تغييرا للصالح.*
ذالك أنه يمس كبرياءنا ويهز قناعاتنا ويهدد سلطان التاريخ وقداسة التراث ومكانة التقاليد الموروثة والأوضاع السائدة. وبدافع العصبية وتحكم البيئة الثقافية في الانسان فإنه عادة يرفض أي دعوة لا تمتد جذورها إلى عمق تاريخ مجتمعه ولا تتناسق مع مزاجه العام. ويصبح الصدام حتميا بين المجتمع و حركة التغيير إذا سارت على خط الثورة على الموروث والقطيعة معه فتتعثر خطاها ويتوقف مدها ويسقط أنصارها ضحايا المضايقة والاضطهاد.
ومن هنا تبرز أهمية تبني منهج الاصلاح من الداخل والتجديد المنطلق من الموروث من الناحية الاستراتيجية لإضفاء الشرعية التاريخية على مشروع الاصلاح وتجنيبه الصدام و المواجهة مع المجتمع وجلب القبول الشعبي له.
وذالك ما تجسده قاعدتنا الاولى أو فقرتنا الاولى من شعارنا الجامع لكسب الحاضنة الاجتماعية لدعوتنا الاصلاحية وهي: *الانتماء لا القطيعة*
وتعني ارتباطنا الوثيق بمنظومتنا الثقافية و قيمنا الوطنية التي لا تتعارض مع الدين ولا تناقض تعاليمه. واعتزازنا بتراثنا الديني الأصيل ورموز وطننا العظماء الذين سطروا أروع البطولات وبذلوا التضحيات الكثيرة لاقامة الدين ومقاومة الاستعمار. والتزامنا بقواعد العدالة والانصاف و تحلينا بأخلاق الرحمة والسماحة في نظرتنا للمجتمع. وبعدنا في التعامل معه عن استعمال لغة التعالى والهجران والتبديع والتكفير التي تترجم *القطيعة* عمليا.
وبعيدا عن لغة الاستراتيجية فإن دعوتنا في واقع الأمر لم تقم على فراغ. إنها امتداد طبيعي لجهاد الرموز الدينية الكبار في وطننا لمقاومة المستعمر الفرنسي وصد هجمات التبشير والتغريب التي شنها على بلادنا والحفاظ على الوجود الاسلامي في السنغال وتربية الناس عليه. إنهم من وضعوا اللبنات الاولى لهذه الصحوة المباركة. وقد تركوا لنا إرثا هائلا من الدين والأخلاق يشكل الأرضية الصلبة لدعوتنا والاطار العام لها. علينا حفظه من الخراب في وجه أعاصير العولمة والغزو الفكري على بلادنا. وتجديد معالمه في غمرة تغيرات وتطورات العصر السريعة. وتخليصه مما لصقت به من أدران التقاليد والعادات السيئة والتصورات الخاطئة. يقول الأستاذ عبد القادر سيلا، رحمه الله تعالى في كتابه: (منعطفات الصحوة الاسلامية في الساحل السنغال نموذجا):
*المجتمع السنغالي مجتمع إسلامي لا تكون مهمة الداعية فيه الدعوة لدخوله إلى حظيرة الدين الاسلامي إنما ينبغي أن ينكب في دعوته على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة وتوجيه بعض الممارسات السمجة المستمدة من العادات والتقاليد البائدة وتهذيب بعض المعتقدات برفع الأوهام الناجمة من سوء فهم بعض المبادئ الأصلية للاسلام…*
وحين نعلن انتماءنا لتراثنا الديني الأصيل في وطننا وامتداد دعوتنا منه لا انقضاض عليه فإننا بذالك نعمل بإرشاد الله تعالى ونلتزم بالمنهج القويم في الدعوة الذي رسمه في كتابه الحكيم حيث يؤكد في مواضع كثيرة منه تصديقه لما سبقته من الكتب السماوية ووحدة الرسالة التي بعث بها الانبياء جميعا. يقول جل شأنه:(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّما َبَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ) ويقول عز و جل:(شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
وحين نعلن اعتزازنا بالرموز الدينية في وطننا الذين أبلوا بلاء حسنا في حماية الدين ورفع شأنه فإننا بذالك ننفذ أمرا إلهيا محكما ونؤدي واجب الأخوة الايمانية لسلفنا الصالح: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
قبل أن يكون ذالك كله حماية للدعوة من التعثر والوقوع في معارك جانبية وصراعات غير ضرورية مع محيطها الاجتماعي وسبيلا يحقق لها النمو والازدهار.

 

Laisser un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée.

Ce site utilise Akismet pour réduire les indésirables. En savoir plus sur comment les données de vos commentaires sont utilisées.