ابن تيمية وخصومه – دروس وعبر في التعامل مع المخالف:

 

محمد مصطفى جالو

 

 

شهد المسلمون عبر التاريخ خلافاتٍ علميةً حادةً بين العلماء، أدى بعضها إلى السجن وإحراق الكتب أو مصادرتها، ولعل من أبرز تلك الخلافات العلمية ما كان بين شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وبين علماء عصره غفر الله لهم جميعا.

  قد لا يكون الإنسان مبالِغاً إذا اعتبر ابن تيمية أبرزَ شخصية علمية لقي جراء الخلاف في مسائل العلم مشاقا عظيمة، فقد كلفته تلك السجالاتُ العلميةُ التي خاضها الدخولَ في السجن عدة مرات، بل وافته المنية – رحمه الله – وهو مسجون في قلعة دمشق بسبب تلك النقاشات الفكرية التي كانت بينه وبين معاصريه.

ولعلك أيها القارئ الكريم، إذا عرفت أن ابن تيمية كان يناقش طوائف مختلفة في مسائل علمية شتى، وأن كثيرا من معاصريه كانوا ضد آرائه في تلك السجالات العلمية، وأن الدولة بأجهزتها المختلفة كانت تنفذ القرارات التي تصدر بحقه، إذا عرفت ذلك تبين لك أنه لا يبعد أن يستحق  لقب أبرز شخصية علمية اكتوت بنيران السجال العلمي في تاريخنا الإسلامي، هذا غير ما كان يرافق ذلك السجال من نعوتٍ تكرِّهه إلى عوام الناس؛ كالشذوذ، والتجسيم، وبغض النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب رأيه في شد الرحال لزيارة القبر الشريف.

 إن الحالة السابق تصويرها ترشح على الأقل لأن يكون ابن تيمية في تعامله مع خصومه مؤْثرا العاطفةَ على العقل، وجزاءَ السيئة بمثلها على العفو عن المعتدي عند القدرة عليه، لكن عندما نعود إلى سيرة هذا الرجل العظيم سنجد أنه اختار في تعامله مع مخالفيه طريقا أخرى أعظم من الطريقين السابقتين؛ ما يدل على عظمته وكون المحرك الأصلي له في تلك السجالات العلمية هو نشدان الحق؛ لا طلب الشهرة أو المخالفة لمجرد المخالفة، ولذا فقد كان يمهل لمخالفيه مهلة طويلة ليأتوا من كلام السابقين ما يفنّد تقريراته في المسائل العلمية التي كان يناقشهم فيها.

 ما تقدم تقريره لا يعني أن ابن تيمية كان خارجا عن الطبيعة البشرية التي جبل عليها الإنسان؛ فقد كان ينفعل أحيانا في نقاشاته العلمية، ويوجه النقد اللاذع إلى مخالفيه، حيث نجده في مسألة الزيارة يصف الأخنائي المالكي بأنه قليل العلم والمعلومات، وأنه لا يصلح للكتابة في هذه المسألة؛ وممن أشار إلى هذه الحدة تلميذه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى حيث قال: « فإنه مع سعة عمله وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشر من البشر، تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم يزرع له عداوة في النفوس ونفورا عنه وإلا – والله – فلو لاطف الخصوم ورفق بهم ولزم المجاملة وحسن المكالمة لكان كلمة إجماع، فإن كبارهم وأئمتهم خاضعون لعلومه وفقهه، معترفون بشفوفه وذكائه، مقرون بندور خطئه، لست أعني بعض العلماء الذين شعارهم وهجيراهم الاستخفاف به والازدراء بفضله والمقت له، حتى استجهلوه وكفروه،  ونالوا منه من غير أن ينظروا في تصانيفه، ولا فهموا كلامه ولا لهم حظ تام من التوسع في المعارف، والعالم منهم قد ينصفه ويرد عليه بعلم وطريق العقل السكوت عما شجر بين الأقران رحم الله الجميع »([1]). إلا أنه حين تقع عينك على ما كتبه الصفدي رحمه الله في الوافي بالوفيات حول الردود عليه في مسألة الطلاق سيتبين لك أن ما قاله في الأخنائي ليس تحقيرا، وإنما كان رأيا يراه في الرجل بصرف النظر عن كونه مصيبا أو مخطئا، إذ إنه – رحمه الله – أثنى على الرسائل التي كتبها العلامة تقي الدين السبكي – رحمه الله – في الرد عليه في مسائل الطلاق فقال: « هذا رد فقيه »([2])، ولا يخفى على الباحثين الخصومة العلمية التي كانت بين التقيين رحمهما الله تعالى.

وقد حاول العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله  ذكر أسباب شدة الإمام ابن تيمية رحمه الله أحيانا على خصومه فوُفِّق أيّما توفيق حيث قال: « إن السبب الطبيعي لمعارضته لدي كثير من المعاصرين خصيصة كانت في نفس شيخ الإسلام، تلك التي توجد عندكثير من أهل الفضل الذين يتميزون بذكاء غير عادي، وسعة النظر، وكثرة المعلومات، وأعني بها حدة الطبيعة تبعثهم في بعض الأحيان على تناول بعض معاصريهم بالنقد اللاذع، وإظهار جهلهم وغبائهم، وقلة علمهم، وتخرج من أفواههم من شدة التأثر كلمات تجرح شعور أهل العلم من معاصريهم والمعجبين بهم، وتثبط همة تلاميذهم، الأمر الذي يبذر في قلوبهم بذور النفور والعداوة الدائمة، وذلك ما ينتج إصدار فتاوى الكفر والضلال عليهم، والمعارضة المستمرة والتربص بهم الدوائر » ([3]).

تصرف ابن تيمية مع خصومه لما سنحت له فرصة الانتقام: في بعض الفترات من هذه الخصومة العلمية بينه وبين معاصريه سنحت لابن تيمية – رحمه الله – فرصة الانتقام من مخالفيه، ومجازاتهم بمثل فعلتهم، لكنه مع ذلك آثر العفو على الثأر، ولنترك تلميذه الحافظ ابن كثير –رحمه الله- يحدثنا عما دار بينه وبين السلطان الناصر ابن قلاوون لما دخل مصر وأفرج عنه قال: « استفتى السلطان ابن قلاوون الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم عزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضا، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كان حنْقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحدا منهم بسوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارا، فقال الشيخ من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.

قال وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا »([4]).

يستفاد من هذا الحوار الدائر بين السلطان ابن قلاوون والإمام ابن تيمية – رحمه الله – أمور منها:

1- سلامة صدر ابن تيمية تجاه مخالفيه، وقهره نفسَه التي تشجع في مثل هذه الفرص على الانتقام من المعتدين.

2- أن الرجل طوال فترة نقاشه العلمي كان يهمه الذب عن حياض الدين، فإذا حصل ذلك فقد حصل مبتغاه، وما يناله في سبيل ذلك من أذى جسدي لا يبالي به، ويؤكد ذلك أن جماعة من الناس انفردت به بتحريض من خصومه، فنالوه ضربا، فلما تجمع بعض محبيه ليثأروا له، قال لهم: « إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله، فإن كان الحق لي فهم في حل منه، وإن كان لكم، فإن لم تسمعوا ولم تستفتوني فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله، فالله يأخذه إن شاء الله »([5])، ولما دخل السجن في آخر حياته صودر جميع ما عنده من أدوات الكتابة والدراسة بمرسوم حكومي، ومع ذلك فلم يزل يردد الكلمات نفسها تجاه خصومه، وقد زاره في مرضه الأخير نائب السطان في دمشق، فاعتذر والتمس منه العفو، فقال ابن تيمية رحمه الله: « إني قد أحللتك وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على الحق، وأحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حبسه إياي، لكونه فعل ذلك مقلدا معذورا، ولم يفعله لحظ نفسه، وقد أحللت كل أحد مما بيني وبينه، إلا من كان عدوا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم »([6]).

3- أن دافع ابن تيمية – رحمه الله – في هذا السجال العلمي طوال فترة حياته هو لكونه يرى -كما تقرر في النصوص الشرعية – أن العلم أمانة واجبة التأدية، وأن بيان الحق من عالمه أمانة أيضا وأن كتمانه وبال، وبهذا السلاح خاض ابن تيمية هذه المعمعة التي كلفته الكثير، وحجب عن الأنظار مدة طويلة، ومع ذلك فقد بقي ذكره بسبب إخلاصه، وانتشرت كتبه وأفكاره، ونالت شخصيته العظيمة إعجاب المخالفين المنصفين قبل الموافقين.

ما أحوج العلماء والدعاة في هذا العصر إلى استخلاص الدروس والعبر من خلال سيرة هذا الرجل في تعامله مع خصومه، وأن يضعوا همهم الأكبر في حواراتهم العلمية هو بيان الحق للناس، لا للثأر والانتقام؛كالفرح بزلة المخالف، أو بوقوعه في الفضيحة، واعتبار ذلك انتصارا للدين، وفقنا الله لخدمة هذا الدين، والإخلاص وسلامة الصدر.

 

 

[1]  ثلاث تراجم نفيسة للأئمة الأعلام (24-25).

[2]  الوافي بالوفيات (21/167).

[3] رجال في الفكر والدعوة في الإسلام (2/143).

[4] البداية والنهاية (14/61).

[5] ابن تيمة، محمد أبو زهرة (ص:74). بواسطة رجال في الفكر والدعوة في الإسلام (2/107).

[6] رجال في الفكر والدعوة في الإسلام (2/121).

Laisser un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée.

Ce site utilise Akismet pour réduire les indésirables. En savoir plus sur comment les données de vos commentaires sont utilisées.