لا إنكار في مسائل الخلاف ــ تعديل في الصياغة أم إبقاء كما هي:

(*) محمد مصطفى جالو

تعتبر القواعد الفقهية من أجمل العلوم الإسلامية التي استنبطها الفقهاء من الأدلة الشرعية، وجمالُها في صياغاتها البليغة والبديعة، وجمعِها لمسائل فقهية كثيرة من أبواب شتى تحت قاعدة واحدة تسهل لطالب العلم حفظ شتات المسائل وضبطها ضبطا محكما.

قال الإمام القرافي رحمه الله: (… من ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره… )(1).

والفقهاء في صياغاتهم للقواعد الفقهية حذوا حذو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المصدرين الأساسين للإيجاز البليغ الذي أبهر بلغاء العرب.

ومن القواعد الفقهية التي يدور الجدل حول صحة صياغتها قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) أو ( لاينكر المختلف فيه )، فقد ذهب بعض العلماء والباحثين، وتبعهم في ذلك ثلة من طلبة علم الشريعة إلى الدعوة بإعادة النظر في صياغة هذه القاعدة؛ لكون هذه الصياغة توهم ـ حسب رأيهم ـ أن الخلاف الشاذ أو الضعيف لا إنكار فيه.

وفي سبيل إزالة هذا اللبس الناتج عن الصياغة السابق ذكرها ـ في رأيهم ـ تجدهم يقترحون صيغا أخرى للقاعدة مثل: ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد )….

والمقال جاء لبيان أن الصيغة لا لبس فيها، وأن الإنكار المنفي في القاعدة يراد منه المسائل الخلافية السائغة، لا المسائل الشاذة أو بعيدة المأخذ.

تحرير محل النزاع:

اتفقوا على أن الخلاف في الشريعة نوعان: خلاف مقبول، وخلاف غير مقبول، واختلفوا في سلامة صياغة قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) التي تندرج تحتها المسائل الخلافية السائغة على قولين:

القول الأول: يجب تعديل هذه القاعدة إلى صياغة: ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد )، وهو ظاهر ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله(1).

ومجمل تعليلهما هو: أن كلمة ( الخلاف ) المذكور في القاعدة يعم كل خلاف قويا كان أو ضعيفا، فيجب استبدالها بكلمة (الاجتهاد) التي تختص بالخلاف السائغ.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ( … وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيه مساغ، لم تنكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلداً )(2).

القول الثاني: ذهب أكثر العلماء إلى صياغتها على النحو التالي:

( لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه)(3)، لا إنكار في مسائل الخلاف.

ويمكن أن يستدل لسلامة صياغة القاعدة، ونقد القول بعدم صحتها بما يلي:

ــ طبيعة القواعد الفقهية: تشهد لسلامة صياغة قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) طبيعة القواعد الفقهية؛ حيث إنها أغلبية لا كلية، ولذا جرت العادة في تعريف العلماء للقواعد الفقهية بأنها أغلبية، ويُفهم من ذلك أن الفقهاء حين قعّدوا قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) لم يقصدوا تقرير جميع أنواع الخلاف.

والتصرف في صياغتها بحجة أنه يفهم منها دخول غير المقصود فيها يجب أن ينسحب على كثير من القواعد الفقهية؛ إذ شأنها شأن هذه القاعدة سواءا بسواء.

ـــ تطبيقات القاعدة:

مما يدل على أن الفقهاء لم يقصدوا جميع أنواع الخلاف حين صاغوا قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف) تطبيقاتهم للقاعدة، حيث إنهم طبقوا القاعدة على المسائل الخلافية السائغة، مع التنبيه على أنه ينكر في المسائل الخلافية الضعيفة أو الشاذة.

ولذا لما أورد الإمام الزركشي رحمه الله هذه القاعدة أتبعها ببعض المسائل التي لا تدخل فيها، حيث قال رحمه الله: ( أما المختلف فيه فلا ننكره إلا في أربع صور…)، ومن الصور التي ذكرها:

أن تكون المسألة الخلافية بعيدة المأخذ، كأن يطأ المرتهن المرهونة، ويرى الإمام عطاء رحمه الله جواز ذلك، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى خلافه في المسألة(1).

ولذا فالأولى الاحتفاظ بصياغة القاعدة، مع ضرورة بيان تقييداتها بالرجوع إلى الكتب التي تناولت هذه القاعدة بالشرح وذكر المسائل التي تندرج تحتها، والتي لا يدخل فيها مما يشبهها ويختلف معها في الحكم، أو على الأقل أن يُعترف لهم بصحة القاعدة بالقيود التي قيدوها، وإن كان هنالك استدراك عليهم، أو صياغة أخرى مقترحة أدق في نظر مخالفيهم، كذلك فإن الاستدراك يكون متجها لو طبقوا القاعدة على كل خلاف، وأنت ترى أن الزركشي رحمه الله تعالى استثنى صورا من الخلاف يجب الإنكار فيها.

ــ  التقعيد الفقهي خاضعة لصياغات معينة: من طبيعة القواعد الفقهية أنها تجمع فروعا كثيرة تحتها، وهذا يقتضي أن تخضع لصياغات معينة منتقاة حتى ينطبق عليها اسم القاعدة، فالمسائل المستثناة من القاعدة بمثابة محترزات لها فلا يمكن معرفتها إلا بالرجوع إلى شروحات القواعد الفقهية.

ولذا حتى على التسليم بتعديل صياغة قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) إلى صياغة: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) فإن ذلك لا يغني عن فهم الصياغة المقترحة ـ في رأيي ـ؛ لأنه لا بد  من التفرقة ين المسائل الاجتهادية وغيرها بضرب أمثلة تطبيقية عليها، وهوالأمر الذي فعله أصحاب قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف) سواء بسواء.

ومما هو قريب من سياق ما نحن فيه القاعدة الدعوية المنارية:

 » نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه  »  والتوسط فيها أن يفهم منها أن الإعذار المذكور في القاعدة يعود إلى المسائل الخلافية السائغة لا إلى كل خلاف، وهذا الفهم يجعلنا نُبقي صياغة المقعِّد دون تصرف فيها بزيادة أو نقصان، أو نقدها من أساسها.

على عكس من يرون أن فيها إيهام الإعذار في كل خلاف وإن كان ضعيفا أو شاذا، ويقابلهم من يطبقها على كل خلاف بصرف النظر عن قوته وضعفه.

وخلاصة القول: إن قاعدة ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) لا تحتاج إلى التصرف في صياغتها بحجة أنها توهم عدم جواز الإنكار في المسائل الشاذة أو الضعيفة؛ لأن تطبيقات العلماء لها في شروحاتهم تُبين أن الخلاف الذي لا إنكار فيه هو الخلاف السائغ، والمصير إلى تقييداتهم تلك حتى تبقى القاعدة سليمة من الاعتراض متعين ـ في رأيي ـ وهذا أولى من الدعوة إلى هدر جهودهم في صياغتها، أو تخطئتهم.

الهوامش والإحالات:

(*)  كاتب وباحث في الجامعة الإسلامية بالمدينةالمنورة.

(1) الفروق، للقرافي (1/3).

(1) انظر: الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (6/96)، إعلام الموقعين (3/ 223ـ224).

(2) المصدر السابق (3/224).

(3) انظر:  المنثور في القواعد، للزركشي (3/363)، الأشباه والنظائر، للسيوطي ( ص:158).

(1) انظر: المنثور في القواعد، للزركشي (3/364).

Laisser un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée.

Ce site utilise Akismet pour réduire les indésirables. En savoir plus sur comment les données de vos commentaires sont utilisées.