مقا صد الدعوة الإسلامية ومكارمها في ضوء الكتاب والسنة

بقلم / د. وصفي عاشور أبو زيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد،،

فإن أفضلَ ما يشتغل به المسلم في هذه الحياة على الإطلاق، وأحسنَ ما يعمل به، هو الدعوةُ إلى الله تعالى، مصداقا لقوله عز شأنُه: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣] ، قال الإمام الشوكاني في فتح القدير في تفسيرها: (فَكُلُّ مَن جَمَعَ بَيْنَ دُعاءِ العِبادِ إلى ما شَرَعَهُ اللَّهُ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا، وهو تَأْدِيَةُ ما فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ اجْتِنابِ ما حَرَّمَهُ عَلَيْهِ، وكانَ مِنَ المُسْلِمِينَ دِينًا لا مِن غَيْرِهِمْ فَلا شَيْءَ أحْسَنُ مِنهُ ولا أوْضَحُ مِن طَرِيقَتِهِ ولا أكْثَرُ ثَوابًا مِن عَمَلِهِ).

وقد رتب الله تعالى الفلاح المطلق على هذا العمل المقدس حين قال: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٤]، قال الشيخ السعدي في تفسيرها: (وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين، ولهذا قال تعالى عنهم: ﴿وأولئك هم المفلحون﴾ الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب).

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة والتبليغ عنه، ومن ذلك ما قاله في خطبة الوداع كما أخرجها البخاري بسنده عن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي قال: (خطَبَنَا النبيُّ ﷺ يومَ النحرِ، قالَ: …. ألا هَلْ بَلَّغْتُ ، قالوا: نعمْ، قالَ: اللهمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الغائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى من سَامِعٍ) ، وروى البخاري بسنده عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آيةً) ، فاللام الساكنة في (فلْيبلغ) لام الأمر، و(بلغوا) فعل أمر، والأمر للوجوب – كما قال الأصوليون – إلا إذا صرفه صارف عن الوجوب إلى غيره.

وإن الدعاة إلى الله تعالى هم وارثو هذا الفضل الكبير، وحائزو هذا الشرف العظيم؛ فهم ورثة الأنبياء، يبلغون عنهم، ويقومون بمهمتهم، ويتعرضون لما تعرضوا له، وأجرهم في ذلك عند الله من أعظم الأجور، ومثوبتهم عنده الدرجاتُ العلى بفضله وكرمه.

ولقد كثرت الكتابات في الدعوة وعلومها قديما وحديثا، حتى صار لها كليات مستقلة، ومناهج دراسية، وأساتذة وأعلام ومختصون، ويقام لها الندوات والمؤتمرات والمحافل، وتؤسس لها المؤسسات والمراكز، وتنشر عنها الكتب والمؤلفات والموسوعات: هذا في أصول الدعوة وأركانها، وذاك في الخطابة وتاريخها، وهذا عن الخطيب ومقوماته، وهذا عن فقه الدعوة ووسائلها، وهذا عن موازنات الدعوة ومآلاتها؛ حتى أضحت الدعوة علما بل علوما تصنف فيها الكتب، وتوضع لها المناهج، ويتخصص فيها الراغبون.

لكنَّ هناك فراغا كبيرا – رغم تعدد وتنوع المؤلفات في علوم الدعوة – لم يسد كما ينبغي حتى الآن، ولم يكتب فيه أحد بشكل مستقل – حسب علمي – وهو ما يتعلق بمقاصد الدعوة الإسلامية، أو علم مقاصد الدعوة إلى الله تعالى؛ رغم أنه علم معياري حاكم، وله التقديم على غيره من علوم الدعوة أصولا وفقها وتاريخا وخطابة وتواصلا، فهو العلم الذي يُقوّم مسيرة الدعوة، ويُقيِّم عملها، ويحكم على علوم الدعوة جميعًا وتطبيقاتها؛ إذ الأمور بمقاصدها، والوسائل خاضعة للمقاصد ومعتبرة بها، وتقاس الدعوة وميادينها بمدى تحقيقها لمقاصدها، ورغم هذا فلم يكتب فيه بشكل مستقل بارز حتى الآن، اللهم إلا رسالة علمية في كلية أصول الدين بجامعة أم القرى بعنوان: (فقه مقاصد الدعوة إلى الله تعالى وأثره في حياة الداعية) لصاحبها سعد بن عبد الله القعود، وبعض المقالات هنا وهناك.

وقد قام أخونا الفاضل الشيخ نجوغو مبكي صمب – الداعية النابه النشيط الدؤوب، مدير الدعوة في جماعة عباد الرحمن في السنغال – بجهد مشكور في هذا الباب، فقد كتب كتابا مدهشا أعتبره من بواكير التأليف في هذا المجال، وأسماه: “مقاصد الدعوة الإسلامية ومكارمها في ضوء الكتاب والسنة”، ولعله اقتبس العنوان أو استفاده من كتاب المفكر المجاهد الثائر علال الفاسي: “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”، فإذا كان الأخير في باب المقاصد من جهة أصولية فكرية حضارية قانونية، فالأول في مجال الدعوة الإسلامية من وجهة دعوية تأصيلية حضارية؛ لأنني أعتبر فقه المقاصد وفكر المقاصد علما وفقها حضاريًّا من شأنه أن يجدد العلوم ويطورها ويوسع مداها ومجالها، ويجعلها تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

قسَّم داعيتنا الشيخ نجوغو كتابه إلى مدخل وثلاثة أبواب، تحدث في المدخل عن تعريف علم مقاصد الدعوة الإسلامية ومصادره وأهميته.

وفي الباب الأول تحدث عن تاريخ العناية بمقاصد الدعوة الإسلامية، واستعرضه من خلال الكتاب والسنة والصحابة، وعند عدد من العلماء والمصنفين في علوم الشريعة، كما تناول العلاقة بين الضروريات الخمس والمقاصد العامة لدعوة الأنبياء والمرسلين.

وتحدث في الباب الثاني عن المقاصد العامة لدعوة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وذكر منها ثمانية مقاصد، تناول كل واحد منها في فصل مستقل، هي: مقصد الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك، ومقصد إثبات النبوات وتصديق الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ومقصد الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر والتصديق بالبعث بعد الموت، ومقصد تهذيب الأخلاق ونشر الفضائل، ومقصد إقامة القسط ومنع الظلم، ومقصد سياسة الناس وتدبير شؤونهم العامة، ومقصد إقامة الحجة على الناس، ومقصد البشارة والنذارة.

وخصص الباب الثالث للحديث عن مقاصد بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ومكارمها، واستنبط أحد عشر مقصدا، جعل كل مقصد منها في فصل مستقل، هي: مقصد الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الوثنية، ومقصد الدعوة إلى الإيمان بالبعث والجزاء، ومقصد دعوة أهل الكتاب إلى التصديق بنبوته وكشف زيغهم وضلالاتهم، ومقصد تتميم مكارم الأخلاق وتزكية الأنفس، ومقصد الحكم بما أنزل الله وتطبيق شريعته، ومقصد إخراج الأمة الوسط الخيرة، ومقصد حفظ الكرامة الإنسانية، ومقصد حفظ الأمن والاستقرار، ومقصد السماحة والتيسير على الناس، ومقصد إظهار الإسلام على الدين كله، ومقاصد التجديد والإصلاح ومكارمها .

ولا شك أن ما استخرجه المؤلف الكريم من مقاصد، سواء في دعوة الأنبياء والمرسلين أم في دعوة النبي الخاتم – صلى الله عليهم وسلم – قابل للزيادة على ما قال، وذلك عند التأمل والتدبر والنظر، فباب المقاصد مفتوح غير منحصر في عدد معين اعتبارا لتنوع الزوايا التي يتنظر منها المتدبرون.

ومن خصائص التناول في هذا السفر النفيس ومزاياه الذي بذل صاحبه فيه جهدا كبيرا ومقدرا: أنه يذكر المقصد ثم يورد نماذج له من التاريخ: تاريخ الأنبياء وتاريخ السيرة النبوية، ثم يذكر مكارم هذا المقصد وما يحققه من فوائد، وهو ما يعتبر من باب (مقاصد المقاصد)، كما جاء تناول أفكار الكتاب ومقاصده ومكارمه في ضوء نصوص الكتاب والسنة ، وذكر ما يوضحها من أقوال المفسرين والشراح والكتاب والدعاة والمفكرين الإسلاميين.

تميز الكتاب كذلك بعدم التعصب، والانفتاح على الأعلام والمدارس المختلفة، بما تناوله عنهم وما نقله من كتبهم، فالشيخ نجوغو في كتابه منفتح على التيارات والمشارب المختلفة، وهذا يعطي قيمة خاصة للكتاب، ويوسع مجال النفع به، كما تميز الكتاب بسهولة العبارة وسلاسة العرض وجمال الأسلوب، وامتاز بالتطبيقات والنماذج الوفيرة التي أغنت الكتاب بما جعله وجبة مفيدة نافعة للدعاة إلى الله تعالى..

إنني أهنئ الدعاة بصدور هذا الكتاب، وأدعوهم إلى قراءته و دارسته والإفادة منه، وأهنئ المكتبة الإسلامية بأن تتزين به، وأدعو لفضيلة الشيخ نجوغو صمب بالقبول الحسن عند الله، والتغيير للأحسن عند الناس، وبمزيد من العلم النافع، والعمل الصالح، والإنتاج المغير والمؤثر، إنه أقرب مسئول وأكرم مجيب، والحمد لله رب العالمين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.