كلمة الله هي العليا للشيخ أحمد مبكي غيندي فاطمة (شرح وتحقيق للشيخ انجوغو امباكي صمب) الجزء الأول:

الجزء الأول:

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد .

فإن تراثنا الإسلامي السنغالي كنز علمي ثمين ومعدن معرفي نفيس، خلفه لنا علمائنا ومشايخنا الأجلاء رحمهم الله تعالى، وبرهنوا فيه على طول باعهم في الشريعة وعلومها ، وعلو كعابهم في اللغة العربية وآدابها، مع استقلال تام في شخصياتهم العلمية، وتجرد ظاهر في توجهاتهم الفكرية .

حيث ألفوا وكتبوا لشعوبهم وبيئاتهم ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف ، وناقشوا المسائل العلمية و القضايا الاجتماعية التي تشغل عقل المسلم الأفريقي والسنغالي ، وحققوا بذلك الأصالة والمعاصرة ، وجمعوا بين فقه الشرع وفقه الواقع .

ولهذا يجب على العلماء والباحثين خدمة هذا التراث وإخراجه للناس ، صلة لرحم العلم ، ووفاء للأسلاف بالجميل ، ووراثة لعلومهم وتجاربهم ، قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [1] .

وهذه دراسة وتعليق على رسالة علمية ومذكرة فقهية للشيخ أحمد مبكي غايندي فاطمة رحمه الله تعالى الموسومة ب ( كلمة الله هي العليا ) ، أحتسب من الله تعالى الأجر والمثوبة في إخراجها للناس محققة ومنقحة ، مشاركة متواضعة مني في خدمة تراث العلماء والمشايخ السنغاليين ، وتعريفا بالجانب العلمي والفكري لشخصية الشيخ أحمد مبكي غايندي فاطمة ، ومساهمة في المعركة الفكرية المستمرة بين حملة المشروع الإسلامي الإصلاحي وبين ورثة الحملة الفرنسية التغريبية التخريبية .

والله تعالى نسأل التوفيق والسداد .

تمهيد

عملي في هذه الدراسة .

أما عملي في هذا الكتاب فهو عبارة عن شرح وتعليق على هذه الرسالة العلمية المفيدة ، وتعريف وتقريب لهذه الدرة الثمينة التي ظلت أكثر من أربعة عقود في عداد المخطوطات ، بحيث لم يسمع بها كثير من الباحثين وطلاب العلم ، ولم يطلع عليها ويقف على  دقائقها إلا نزر يسير ممن سمع بها .

ويتمثل منهجي في خدمة هذا السفر الجليل في الوظائف التالية :

  • ترجمة الشيخ أحمد مبكي غايندي فاطمة .

وقد قمت بالترجمة له ترجمة موجزة ، وتناولت فيها مولده ونشأته وطلبه للعلم وأهم أعماله وإنجازاته ، رحمه الله تعالى .

  • ضبط الكتاب وإخراج نصه سليما من التصحيف والتحريف .

فالأصل الذي بين يدي صورة للكتاب بخط اليد ، وفيها بعض التصحيفات والتحريفات والممحوات ، والأمانة العلمية تقتضي الرجوع بمتن الرسالة إلى الهيئة التي رقمتها يد المؤلف ، قبل الشروع في الشرح والتعليق .

  • الشرح والتعليق .

وذلك بالوقوف عند كل مطلب ومبحث في الكتاب لشرح مراد المؤلف رحمه الله تعالى وكشف مقصوده ، وذكر ما يؤيد كلامه من كلام المفسرين وشراح الحديث وأئمة الفقه ، حتى يعرف الناس بأنه ليس بدعا من الذين سلكوا هذه المسالك وقرروا تلك التقريرات .

  • عزو الآيات القرآنية .

وذلك من زينة المؤلفات وجمالها ، بحيث تعزى الآيات القرآنية ، بذكر أرقامها وسورها ، سواء في المتون أو في الحواشي .

  • تخريج الأحاديث النبوية .

وذلك بذكر مصادرها من الصحاح والسنن والمسانيد ، وحكاية ما قاله علماء الحديث في حكمها من تصحيح أو تضعيف .

وأسأل الله تعالى أن يجزي واضع هذه الرسالة الشيخ أحمد مبكي غيندي فاطمة عن المسلمين خير الجزاء ، وأن يجعلها في ميزان حسناته يوم القيامة ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من اتى الله بقلب سليم .

مدخل : في كمال الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان .

إن الشريعة الإسلامية الغراء أحسن الشرائع وأكملها ، قال تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }[2] ، وقال تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } [3] .

 وهي الشريعة الوحيدة الصالحة لكل زمان وكل مكان ، وذلك لما يتميز بها من الربانية والشمولية والواقعية ، قال تعالى { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[4] ، وقال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [5] .

وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم باتباعها ، وترك كل ما خالفها من الأهواء المضلة ، قال تعالى { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }[6]  .

وأمره تعالى أن يحكم بها بين الناس ، وحذره من ترك شيء من أحكامها صغيرة كانت أو كبيرة ، قال تعالى { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}[7] .

وجعل سبحانه وتعالى التحاكم إليها من مقتضيات التوحيد وعلامات الإيمان ، قال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } [8] .

وقد شهد التاريخ قديما وحديثا على أن البشرية لم تسعد قط بمثل شريعة الإسلام ، فقد أنقذ الله بها العرب مما كانوا فيها من الجاهلية ، قال تعالى { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [9] .

كما أنقذ كثيرا من شعوب العالم وأخرجهم بها من الظلمات إلى النور ومن العماية إلى الهدى ، قال الربعي بن عامر رضي الله عنه مبينا المقاصد العليا لرسالة الإسلام (( وَاللَّهُ جَاءَ بِنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسْلامِ )) [10] .

هذا، ومن إن من أسعد الشعوب وأحظاها بفضائل الشريعة الإسلامية ومكارمها شعوب أفريقيا عامة وأهل السنغال خاصة ، لما هداهم الله تعالى إلى الإسلام ، فدخلوا في دين الله طواعية ، وقامت المماليك والسلطنات الإسلامية في أقطارها ، فعم بلادها الأمن والرخاء والرفاهية والغناء ، وذلك مصداقا لقوله تعالى { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [11]  ، وقوله تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[12] .

وظل الحكم بالشريعة الإسلامية في كثير من البلاد الأفريقية مدة طويلة ، إلى أن دخلها الإستعمار ، فأذلت شعوبها ونهبت ثرواتها وغيرت أنماط حياتها ، مصداقا لقوله تعالى حكاية عن ملكة سبأ { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ }[13] .

ومن أعظم جنايات الاستعمار الغربي وجرائمه تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم واستبدال القوانين الغربية الوضعية بها ، وتعطيل المحاكم الشرعية التي كان المسلمون يتحاكمون إليها .

ومع جلاء الاستعمار وخروجهم من بلادنا عهدوا إلى ورثتهم من بني جلدتنا باستكمال ما بقي من فصول التغريب والمسخ الحضاري للشعوب ، بعد أن أرضعوهم من أفاويق الثقافة الغربية ، وضعوا مقاليد الحكم بأيديهم .

وما قصة مشروع قانون الأحوال الشخصية السنغالي (1972م ) إلا حلقة من حلقات الغزو الفكري ، ومظهرا من مظاهر التبعية والتقليد الأعمى للغرب وأذياله ، كما قال العلامة عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله (( المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك : أن النفس تعتقد الكمال أبدًا في من غلبها، وانقادت إليه)) . [14]

ولقد قابل مشايخ السنغال مشروع قانون الأحوال الشخصية بمعارضة شديدة ، وذلك لمخالفته للشريعة الإسلامية وللكرامة الإنسانية والعزة الإسلامية .

وكان الشيخ أحمد مبكي غايندي فاطمة رحمه الله تعالى قائد هذه المعارضة وعقلها المدبر ، حيث أعلن بصراحة موقفه المعارض للمشروع ، وتواصل مع كبار مشايخ السنغال لتوعيتهم وتعبئتهم ضده ، وكتب رسالة قيمة للرد عليه وكشف عيوبه وزيوفه ، سماها ( كلمة الله هي العليا ) ، ثم أطلع المشايخ عليها فاستحسنوها ، و وافقوه على ما سطره فيها ووقعوا على ذلك ، وقرظها بعضهم بتقريظات من الشعر وأخرى من النثر ، احتفاء بها واحتفالا .

وهذه الرسالة على وجازتها قد اشتملت على جملة من قواعد السياسة الشرعية، وتأصيل قوي على وجوب الحكم بما أنزل الله تعالى ، وحرمة الحكم بالقوانين الوضعية  ، وردود على أخطر شبهات العلمانيين .

وهذا يدل دلالة قاطعة على فقه الشيخ أحمد غايندي فاطمة رحمه تعالى في الدين ، وسعة ثقافته ، واطلاعه على واقع عصره ومجريات زمانه ، فضلا عن شجاعته وحكمته وفطنته .

 

 الهزامش والإحالات

[1] سورة الطور ، الآية 21

[2] سورة المائدة ، الآية 50

[3] سورة الإسراء ، الآية 109

[4] سورة الأنعام ، الآية 38

[5] سورة النحل ، الآية 89

[6] سورة الجاثية ، الآية 18

[7] سورة المائدة ، الآية 49

[8] سورة النساء ، الآية 60

[9] سورة آل عمران ، الآية 103

[10] تاريخ الطبري ، تأليف محمد بن جرير الطبري ، 3 / 520 ، الناشر دار التراث –بيروت 1387 هـ

[11] سورة طه ، الآية 123

[12] سورة النحل ، الآية 96

[13] سورة النمل ، الآية 34

[14] مقدمة ابن خلدون ، 1 / 283 ، تأليف عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ، تحقيق عبد الله محمد الدويش ، الطبعة الأولى 1425 هـ

2 تعليقات
  1. شيخ مود بدر جوب يقول

    ما شاء الله ، تقديم يشوقك على الاطلاع بالرسالة، كاملا نأمل أن تستعجل في استحراجها لكن بدقة وبتحليل واف لمقتضيات هذا العصر، وخاصة ما نعيشه الأن، بل لا تُقصّر الفائدة فقط على السنغال، وإنما يجب أن تقدم للعالم نصيبهم وأقساطهم من الدراسة !

  2. moustapha mbacke يقول

    ما شاء الله تقديم مشوق!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.