كلمة الله هي العليا للشيخ أحمد امباكي غيندي فاطمة (شرح وتحقيق) الشيخ انجوغو امباكي صمب الجزء الثاني:

 الجزء الثاني:

 

المبحث الأول : سيرة الشيخ أحمد مبكي غيندي فاطمة رحمه الله .

في هذا المبحث ترجمة موجزة للمصنف، وتتناول مولده ونشأته ، وطلبه للعلم ، وأهم أعماله وإنجازاته رحمه الله .

وتحته ثلاثة مطالب وهي :

المطلب الأول : ولادته ونشأته .

هو الشيخ أحمد مبكي المعروف بِـ  ( غايندي فاطمة ) نجل الشيخ محمّد المصطفى مبكي بن الشيخ أحمد بمب مبكي ، واسم والدته السّيدة فاطمة جوب بنت أَحمد مَخُريجَ جوب .

ولد الشيخ أحمد مبكي غايندي فاطمة في مدينة طوبى في ( اليوم ) شعبان سنة 1331ه‍ الموافق  1913 م.

المطلب الثاني . طلبه للعلم .

لما بلغ سنَّ التعلُّم بعثه والده هو وأخاه سيرين مبكي مدينة  إلى جدّه في ( جُربل) ، فابتدأ حفظ القرآن علي يديه ، وبعد فترة يسيرة انتقلا إلى قرية (حسن المآب) المشهورة ب ( تِندودِ ) إلى الشيخ مختار آل لوح، ثم إلى سرين مختار كَيار جينغ . وتلقى الشيخ أحمد مبكي ورفيقه مبادئ العلوم الشرعية على يد إمام جامع طوبى العالم الرّباني الشيخ حبيب مبكي رحمه الله ، ثم التحقا بمدرسة الشيخ أحمد دم الجوربلي لدراسة العلوم الشرعية واللغوية، وفي عام (1930)م بعثهما والدهما إلى موريتانيا عند الشيخ مختار حسن بن الحسن جينغ ، و لبِثا عنده ما يناهز ثلاث سنوات .

وكان الشيخ أحمد مبكي رحمه الله تعالى على درجة عالية من العلم الشرعي ، والثقافة العصرية ، متمكنا في اللغة الفرنسية ، ومطلعا على أحوال زمانه ، وقد شهد على ذلك من لقيه ولزمه من العلماء وطلاب العلم والزوار والمعارف .

وكان رحمه الله ذا خلق حسن ، وهيبة ووقار ، جوادا كريما ، وناصحا أمينا ، يعيش بعرق جبينه .

المطلب الثالث : أعماله وإنجازاته .

كان الشيخ أحمد مبكي ذا همة عالية ورؤية إصلاحية وروح ثورية ، وكان يحمل هم الإسلام ، ويسعى لإعلاء كلمة الله تعالى ، وقد قام بأعمال جليلة وإنجازات عظيمة .

وكانت التربية والتعليم في مقدمة أولوياته و مشاريعه الإصلاحية  ، حيث قام ببناء المدراس والمعاهد الشرعية ، وفكر في إنشاء جامعة عملاقة يواصل فيها طلاب العلم دراساتهم العليا ، ولما لم تتحقق تلك الأمنية قام بابتعاث عشرات من طلاب العلم إلى الجامعات العربية والإسلامية في قطر ومصر ولبنان والمغرب ، وكان يزورهم ويتفقد أحوالهم ويساعدهم ويشجهم وينصح لهم .

وكان الشيخ أحمد مبكي يعيش بعرق جبينه ، ويسعى لكسب الرزق الحلال في الزراعة والتجارة ، وإنشاء الشركات والمساهمة في بعضها ، مما أكسبه الاستقلال التام في توجهاته وموافقه ، فلم يُطأطِئ رأسه لسُلطة أو يتزلف لرئيسٍ أو وزيرٍ قطُّ ، كما لم يعتمد في عيشه على الهبات والهدايا .

و كان رحمه الله يقرض الشعر ويكتب المقالة ، ويدون الخطب والتوجيهات الموسمية باللغة العربية ، وقد أورد له الدّكتور عامر صمب في كتابه (الأدب العربيِّ السّنغاليّ )عددا كثيرا من القصائد والمقطوعات الشّعرية.

واشتهر رحمه الله تعالى بمعارضة الاستعمار الفرنسي وأذنابه ، وغيرته الشديدة على شعائر الإسلام وشرائعه ، مهتما بأمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربه ، وخاصة قضية فلسطين التي كان يتابعها عن كثب ، ويتبرع بماله لدعمها ومساندتها .

وله كلمات خالدة تعبر عن منهجه في التغيير والإصلاح، وتدل على وضوح رؤيته ونبل أهدافه وسمو رسالته ، ومنها : قوله رحمه الله (( إنّ أهمَّ مَقصد تُعنى به الأمةُ هو إصلاحُ حالِ النَّاشئين بالتربية والتهذيبِ )) ، وقوله رحمه الله (( المُريدية : طريقَة سُنية ، حَقيقةٌ صُوفية ، رابِطة ثقافية ، هيئة اجتماعية شَرعية )) ، وقوله رحمه الله (( فإن اختلافَ الأفهام والآراء ليس بمُغترب في الحياة، ولكن ليس هذا سَبب الانشقاق والتقاطع ؛ إنما يعود الانشقاق إلى انضمام عوامل أخرى تستغل تباين الأنظار والأفكار للتنفيس عن أهواء وأغراض … )) ، وقوله رحمه الله ((إن ائتلافَ القلوب والمشاعر واتحادَ الأهداف والمناهج من أوضح تعاليم الإسلام وألزم خِلال المخلصين ، ولا ريبَ أن توحيد الصُّفوف واجتماع الكلمة هو الدَّعامة الوطيدة لبَقاء الأمة ونَجاح رسالتها ، ولئن كانت كلمة التوحيد باب الإسلام ، فإنَّ توحيدَ الكلمة سِرُّ البقاء فيه والإبقاء عليه … )) ، وقوله رحمه الله ((إن العمل الواحد في حقيقته وصُورته يختلُف أجره اختلافا كبيرا حين يُؤديه الإنسان وحيدًا ، وحين يُؤديه مع آخَرين )) .

  • وفاته رحمه تعالى .

وقد وافته المنيّة ليلة الأحد 11 مارس 1978م في مدينة طوبى ، و دُفِن بها في ضَريح والده الشيخ محمّد المصطفى مبكي رحمهما الله رحمة واسعة [15]

المبحث الثاني : النصيحة وأثرها في حفظ الشريعة  .

وتحته ثلاثة مطالب .

المطلب الأول : منزلة النصيحة في الدين .

إن من أعظم قواعد  الدين الإسلامي الحنيف النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم ، إذ بها تصان العقائد ، وتحفظ الشرائع ، وتؤدى الأمانات إلى أهلها ، فعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (( الدين النصيحة )) ، قلنا: لمن؟ قال: (( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )) [16] .

ولذلك كان الأنبياء والمرسلون ناصحين أمناء لأقوامهم ، يدلوهم على الخير وينهونهم عن الشر ، قال تعالى حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [17] ، وقال تعالى حكاية عن نبيه هود عليه الصلاة والسلام {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [18] ، وقال تعالى عن نبيه صالح عليه الصلاة والسلام { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }[19] .

والنصيحة أيضا من صفاة الدعاة المخلصين من أتباع الأنبياء والمرسلين ، قال تعالى { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ }[20] ، وقال تعالى { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [21] ، وقال تعالى { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } [22] ، وقال تعالى { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [23] .

ولا تزال طائفة في أمة الإسلام ناصحون ، آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة ، قال الحسن البصرى رحمه الله تعالى (( ما زال لله ناس ينصحون لله في عباده، وينصحون لعباد الله في حق الله عليهم، ويعملون له في الأرض بالنصيحة، أولئك خلفاء الله في الأرض )) [24] .

المطلب الثاني : مراتب النصيحة .

وللنصيحة حسب تعلقها بالمنصوح له خمسة مراتب ، ويكون تفصيلها في خمسة فروع  ، وهي :

الفرع الأول : النصيحة لله .

وقد عرف الإمام النووي رحمه الله تعالى النصيحة لله تعالى تعريفا جامعا ومانعا فقال (( أما النصيحة لله تعالى فمعناها منصرف إلى الإيمان به ونفي الشريك عنه وترك الإلحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص والقيام بطاعته واجتناب معصيته والحب فيه والبغض فيه وموالاة من أطاعه ومعادة من عصاه وجهاد من كفر به والاعتراف بنعمته وشكره عليها والإخلاص في جميع الأمور والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها والتلطف في جميع الناس أو من أمكن منهم عليها )) [25] .

وهي أعلى مراتب النصيحة وأوجبها على المكلفين ، وذلك لتعلقها بحق الله تعالى على عباده ، وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وهي في الحقيقة راجعة إلى العبد وليس إلى الله تعالى ، فالله تعالى هو الغني ، والخلائق جميعا مفتقرة إليه ، قال تعالى { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [26] ، وعن أبى ثمامة قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم : من الناصح لله تعالى؟ قال: (( الذى يبدأ بحق الله قبل حق الناس، فإذا عرض له أمران، أمر دنيا وآخرة، بدأ بعمل الآخرة، فإذا فرغ من أمر الآخرة تفرغ لأمر الدنيا )) [27] .

الفرع الثاني: النصيحة لكتاب الله .

والنصيحة لكتاب الله هي (( بأن كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق ، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها ، وإقامة حروفه في التلاوة، والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين ، والتصديق بما فيه ، والوقوف مع أحكامه ، وتفهم علومه وأمثاله ، والاعتبار بمواعظه ، والتفكر في عجائبه ، والعمل بمحكمه ، والتسليم لمتشابهه ، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه ونشر علومه والدعاء إليه … )) [28] .

ونصيحة العبد لكتاب الله تعالى راجعة إليه أيضا ، فهو الذي يهتدى به من الضلالة ، ويبصر به من العمى ، قال تعالى { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [29] ، وقال تعالى{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [30] .

الفرع الثالث : النصيحة لرسول الله .

والنصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي (( تصديقه على الرسالة والإيمان بجميع ما جاء به ، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيا وميتا، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وإجابة دعوته ونشر سنته، ونفي التهمة عنها واستئثار علومها و التفقه في معانيها، والدعاء إليها والتلطف في تعليمها وإعظامها، وإجلالها والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته، وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك)) [31] .

وهذه النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم تأدية لحقوقه الواجبة على كل مسلم ومسلمة ، ونصرة ومحبة وولاء له ، قال تعالى { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [32] ، كما أنها طاعة له وتسليم لحكمه ورضى به ، قال تعالى { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[33] .

الفرع الرابع: النصيحة لأئمة المسلمين .

 (( والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك )) [34] .

وجميع ما ذكره معدودة من حقوق الراعي على الرعية التي أمر الله ورسوله بتأديتها ، ولا يستقيم أمور المسلمين وتحفظ مصالحهم وتقوى جماعتهم إلا بها ، قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[35] ، وقال صلى الله عليه وسلم (( وأنا آمركم بخمس آمركم: بالسمع والطاعة ، والجماعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله … )) [36] ، وهذه الأمور الخمسة هي مقومات الدولة الإسلامية ، و هي راجعة إلى النصيحة لإمام المسلمين .  

ومن النصيحة لأئمة المسلمين طاعة العلماء وسؤالهم عن أحكام الشريعة ، والاقتداء بهم ومحبتهم وموالاتهم ، لدخولهم في جملة ولاة أمور المسلمين ، قال تعالى { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } [37]، وقال تعالى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [38] ، وقال صلى الله عليه وسلم (( وإن العلماء ورثة الأنبياء )) [39] .

وجميع حقوق ولاة أمور المسلمين من الأمراء والعلماء مقيدة بالشرع ، فلا طاعة لأحد منهم إلا في المعروف ، أي فيما أوجبه الله ورسوله ، أو فيما يحقق للمسلمين المصلحة ويجنبهم المفسدة من سياسات الولاة ومذاهب العلماء ، فعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشا، وأمر عليهم رجلا فأوقد نارا وقال: ادخلوها، فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها، فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: (( لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة )) ، وقال للآخرين: (( لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف )) [40] ، وهذا في حق الأمراء والحكام .

وأما العلماء فقد ورد في حقهم قوله صلى الله عليه وسلم (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا )) [41] .

الفرع الخامس : النصيحة لعامة المسلمين .

النصيحة لعامة المسلمين هي (( إرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم ، وسد خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم، والذب عنهم، ومجانبة الغش، والحسد لهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه )) [42] .

و النصيحة لعامة المسلمين من خصائص المجتمع الإسلامي ، فكل أفراده على اختلاف منازلهم وطبقاتهم ناصح ومنصوح ، فعلى كل مسلم أن ينصح لأخيه المسلم ، ويقبلها منه ، قال تعالى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ }[43] ، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( حق المسلم على المسلم ست )) قيل: ما هن يا رسول الله؟، قال: (( إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فسمته، وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه )) [44] .

ويدخل في النصيحة لعامة المسلمين في مفهومها الشامل التربية والتعليم والدعوة والإرشاد والتوعية والإعلام ، وكل ما يحقق مصالح المسلمين الدينية والدنيوية .

فعلى ولاة الأمر النصيحة لرعاياهم وبذل الوسع في تحقيق مصالحهم ، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( ما من عبد استرعاه الله رعية ، فلم يحطها بنصيحة ، إلا لم يجد رائحة الجنة )) [45] .

وعلى العلماء النصيحة للعامة وتعليهم ما جهلوا من أمور دينهم وتربيتهم وتوجيههم ، قال تعالى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}[46] .

وعلى الآباء والأمهات النصيحة لأهليهم وما ولوا ، قال تعالى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [47] .

المطلب الثالث : أثر النصيحة في حفظ الشريعة .

وللنصيحة آثار في حفظ الدين عقيدة وشريعة وأخلاقا وسلوكا ، فمتى نصح لله تعالى بتوحيده وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وفي حاكميته  ، وبالكفر بالطواغيت ونبذ الأنداد ، كما قال تعالى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [48]  .

ونصح لكتاب الله تعالى بالإيمان به والعمل بما فيها من الشعائر والشرائع ، دون الكفر بشيء منه ، أو ابتغاء الهدى في غيره من الكتب والمصادر الفكرية والعقدية ، كما قال تعالى { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ }[49] .

ونصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان بكل ما أخبر به وطاعته في كل ما أمر به وترك ما نهى عنه وزجز ، واكتفيت بما جاء به من الهدى دون زيادة أو نقصان ، كما قال تعالى { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [50] .

و نصح لأئمة المسلمين بطاعتهم في المعروف ، وموالاتهم والجهاد معهم لإعلاء كلمة الله تعالى ، والتذكير لهم بما تحملوا من الأمانة والمسؤولية ونهيهم عن الظلم والجور ، كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } [51] .

و نصح لعامة المسلمين بتربيتهم وتعليمهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، والإحسان إليهم ، والتعاون معهم ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى)) [52] .

فإذا فعل ذلك تحققت في المسلمين الخيرية المطلقة ، كما قال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [53] .

 ونالوا مرتبة الشهادة على الناس ، قال تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [54] .

ومكن الله لهم في الأرض ونصرهم  الله على أعدائهم ، قال تعالى { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[55] .

وهكذا يكون الدين هو النصيحة ، في حقيقته وجوهره ومظاهره وتجلياته ، ومقتضياته وآثار على الحياة والأحياء .

يتبع…….

 

الهوامش والإحالات: 

[15] هذه الترجمة مختصرة من مقال للأخ سرين مبكي جوب خضر ، مع تصرفات وزيادات ، والمقال منشور في موقع ( وسطيون ) بتاريخ

[16] صحيح مسلم ، برقم ( 55 )

[17] سورة هود الآية 34

[18] سورة الأعراف ، الآية 68

[19] سورة الأعراف ، الآية 79

[20] سورة القصص ، الآية 20

[21] سورة التوبة ، الآية 91

[22] سورة يس ، الآيات من 19 إلى 25

[23] سورة التوبة ، الآية 91 .

[24] شرح صحيح البخاري ، تأليف علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال ، 1 / 128 ، الناشر مكتبة الرشد – الرياض 1423 هـ

[25] شرح صحيح مسلم ، تأليف أبو زكريا يحيى بن شرف النووي ، 2 / 38 ، الناشر دار إحياء التراث العربي –بيروت 1392 هـ

[26] سورة الحجرات ، الآيتان 16 ، 17

[27] المصدر نفسه ، 1 / 128

[28] شرح صحيح مسلم ، للنووي ، 2 / 38

[29] سورة البقرة ، الآية 2

[30] سورة الشورى ، الآية 52

[31] شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية ، تأليف تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب المعروف بابن دقيق العيد ، ص 50 ، الناشر مؤسسة الريان 1424 هـ

[32] سورة الفتح ، الآيتان  8 ، 9

[33] سورة النساء ، الآية 65

[34] جامع العلوم والحكم ، تأليف زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ، 1 / 218 ، الناشر مؤسسة الرسالة –بيروت 1422 هـ

[35] سورة النساء ، الآية 59

[36] مسند الإمام أحمد ، ( 37 / 543 ) ، الناشر مؤسسة الرسالة -1421 هـ وقال محققوه الشيخ شعيب الأرناؤوط وآخرون إسناده صحيح .

[37] سورة النساء ، الآية 83

[38] سورة النحل ، الآية 43

[39] رواه أبو داود والترمذي .

[40] صحيح البخاري ، برقم ( 7257 ) ، وصحيح مسلم برقم ( 1840 )

[41] صحيح البخاري ، برقم ( 100 ) ، وصحيح مسلم برقم ( 2673 )

[42] جامع العلوم والحكم ، 1 / 218

[43] سورة التوبة ، الآية 71

[44] صحيح مسلم ، برقم ( 2162 )

[45] صحيح البخاري ، برقم ( 7150 )

[46] سورة آل عمران ، الآية 187

[47] سورة الأعراف 187

[48] سورة البقرة الآية256

[49] سورة الأعراف ، الآية 170

[50] سورة النساء ، الآية 65

[51] سورة النساء الآية 58

[52] صحيح البخاري ، برقم ( 6011 )

[53] سورة آل عمران ، الآية 110

[54] سورة البقرة ، الآية 143

[55] سورة الحج ، الآيتان ، 40 ، 41

3 تعليقات
  1. شيخ أحمد جينغ يقول

    ما شاء الله سلسلة جميلة وجيدة، نسأل الله ان يجزل المثوبة للكاتب وكل من قرأه.

  2. غير معروف يقول

    ماشاءالله فضيلة أستاذ شيء مهم جدا فبارك الله فيكم وزادكم علما وبلغ عمرك أعواما عديد في نشر دعوة الإسلامية

  3. غير معروف يقول

    جزاكم الله خيرا كثيرا على هذا العمل الجليل العظيم يا فضيلة الشيخ ، فالله تعالى الكريم ندعو أن يجزل لكم الأجر والمثوبة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.