قراءة في رواية: المغامرة الغامضة لشيخ حاميدو كان

 

تعتبر رواية (المغامرة الغامضة) واحدة من أروع الإنتاجات الأدبية الإفريقية المعبرة بالفرنسية، من تأليف الكاتب والمفكر العملاق شيخ حاميدو كان السنغالي*، وهذه الرواية التي تدرس في أعرق الجامعات العالمية والتي ترجمت إلى العديد من اللغات هي –كما يقول عنها المترجم-” رواية إسلامية صميمة وتقدم نقدا صارما ونزيها للحضارة الغربية ومؤتمراتها الفلسفية انطلاقا من الزاوية الإسلامية، وهي الزاوية التي سعى من قدموا ونقدوا الراوية إلى طمسها لأهداف معروفة”. وقد صدر قبل سنوات الترجمة العربية للرواية على يد الأستاذ محمد سعيد باه**، من إخراج المجلس الوطني للفنون والآداب والثقافة بدولة الكويت.

يتناول المؤلف في هذه الرواية -بأسلوب فني ورمزي عميقين-موضوع صراع الثقافات وتعارك الهويات: صراع بين الهوية الإسلامية والهوية الغربية، بين تدفق الروح في أسمى صوره عند الإفريقي المسلم وبين غليان المادة إلى أقصى درجاتها عند الرجل الغربي. في مقدمة الرواية يتحدث الكاتب عن بطل القصة سامبا جالو ( Samba Diallo ) الذي ينتمي إلى الأسرة المالكة في بلاد جالوبي، وعن دراسته لدى الكُتَّاب ومعاناته من الشيخ المقرئ الذي أراد بكل الأثمان أن ينقل ذلك الإرث الروحاني  إلى رأس هذا الطفل البريء، في ظروف أقل ما يوصف بها أنها كانت قاسية، حيث يؤاخذ المعلم تلميذه بأبسط لحن وخطأ في حفظ  أو تلاوة القرآن : يدسُّه بقدميه ويوجع ظهره بضربات العصا، ولا يتحاشى من رميه بالجمرة المتوقدة بالنار بمنطق التأديب والحرص رجاء أن يصبح في يوم من الأيام شيخ القبيلة وزعيمه الروحي. يتوالى هذا المشهد التربوي الفظيع ممزوجا بحال من الارتياح لدى الشيخ من هذا الطفل الموهوب الذي يرتل الكلمات السماوية غضا كما أنزل. إلى أن يأتي المستعمر بمدرسته الجديدة بغية استقطاب أطفال الزنوج. وهنا، وبعد صراع مرير بين الزعماء، يتم إرسال سامبا جالو نجل زعيم” جالب” (Dialloube )- صاحب الذهن المتوقد والروحانية الرفيعة- إلى تلك المدارس بعد مدٍّ وجزر داخل الأسرة ينتهي بالرضوخ للواقع الجديد.

 طبعا مع بالغ تخوف الشيخ مما يمكن أن يحدثه هذا التحول المفاجئ على سلوك الصبي.   وهنا تبدأ المعركة النفسية في سريرة الشاب المتدين، يحاول من خلالها تقليص الهوة الفاصلة بين الروحانية والمادية، بين الدينية والدنيوية.  ونظرا لتفوقه في الدراسة يفوز بمنحة دراسية لمواصلة الدراسة في الغرب وتحديدا في مدينة النور-باريس-. وهكذا يبدأ بطل الروائية رحلة أخرى جديدة مع المعرفة، وأي معرفة؟! المهم أنه غاص خلالها في أعماق الفلسفة الغربية وعقائدها وأخلاقها دراسة ونقدا وتنقيبا، وليلتقى هناك بأسر غربية وإفريقية جرت بينه وبينهم المثاقفة الفكرية. وفي نهاية رحلته العلمية يعود بطل القصة إلى أرض الوطن ويفاجأ أن شيخه قد توفي وأن لم يبق هناك سوى ذلك الرجل “المجنون” الذي ما فتئ يذكره وسابق تديُّنه فيناديه بــ “المعلم” ولكن هيهات. لقد أصبح سامبا جالو عديم الروحانية، فاقدا لتلك الشعور الإيماني. لقد غيرته مدرسة البِيض لأنه تعلَّم هناك مهارة ” كسب المعركة أمام الآخر وإن لم يكن معك الحق”. وهنا يقع البطل في النتيجة الحتمية التي تنبأ به أمير آل جالبي في حواره مع الشيخ إذ قال:

     إذا قلت لهم أن يذهبوا إلى المدرسة الجديدة سيُهرولون… وسيتعلمون… لكنهم سَيَنسوْن شيئا ما.. أيساوي ما سيتعلمونه ذلك الذي سينسونه؟!

أجل، لقد نسي سامبا جالو …. كما تشير إليه النهاية المأساوية

هكذا يبحر بنا الكاتب بلغة كلاسيكية ممزوجة بالحياء والتحفظ الإفريقييْن، وبتصوير طوبوغرافي متناغم في خضم سلسلة من الأحداث المتراكمة والمتناقضة لتنتهي بطريقة مأساوية من خلال اختطاف حياة سامبا جالو على يد ذاك “المجنون”.

ونجد في الجزء الأول من الرواية التركيز على التراث والموروث الإسلامي وعلى التربية الشخصية لبطل الرواية سامبا جالو حيث أثر في مسيرته تلك ثلاث شخصيات هي: شيخ جالوبي، وزعيم جالوبي، والملكة الكبرى أخت الزعيم التي ألحَّت على إلحاق سامبا جالو بالمدارس الحديثة ليتعلم فن “الانتصار وإن لم يكن الحق من طرفه”، تلك الفكرة التي تثير تخوفات شيخ القبيلة الذي يرى أن ذلك القرار نذير “تخافت صوت المؤذن وتواريه أمام الصرخة الكبرى القادمة من الغرب”.

كما نجد في الجزء الثاني من القصة نقدا للتراث الغربي من خلال احتكاك البطل سامبا جالو بالعالم الغربي ودراسة فلسفته بعمق، ومناقشته لتك الأفكار الأمر الذي ترك أثرا في فكر البطل، وربما أدى إلى إخماد جذوة روحانيته المتوقدة وفقدان حرارة الكلمات السماوية التي تعلمها من الشيخ، لأنه تعلم الآن “كيف ينتصر دون أن يكون معه الحق”، وبقي السؤال العويص وهي الإشكالية التي تتمحور حولها الرواية – هل المعارف التجريبية (الجسد، الوجود) التي تعلمها في المدرسة الجديدة يساوي تلك المعارف (الله-) التي درسها ونسيها في كتاتيب آل جالوبي”.

وفي جو التساؤلات الهائلة والمتدفقة في خضم هذه المغامرة توسل الكاتب إلى صيغة بمنتهى الوضوح تمثل خيطا من خيوط الحل وهو أنه ليس على ذلك الكائن التائه الذي يسميه بـ”الإنسان الآلة” أكثر من أن يستلقي على السرير ويأخذ نفسا عميقا في محاولة لمصالحة الذات (المادة) مع الروح (الحياة).

وهنا نذكر-والشيء بالشيء يذكر- أنه في حين تحدث صامويل هانتيغتون مؤخرا عن صدام الحضارات ونظَّر لحتمية المواجهة العنيفة بين الحضارتين الغربية والإسلامية، نجد أن شيخ حاميدو كان قد طرح فكرة المُصَالَحة بين الحضارتين قبل هانتيغتون بثلاثة عقود ، دون أن يستهين بالجوانب الغامضة –وربما العنيفة أيضا- من هذه المصالحة. وهذا المنحى التصالحي منه نابع من قناعاته الفكرية التي تؤمن بخالدية القيم الإسلامية إذ يؤكد: “إن قيم الإسلام خالدة وستبقى إلى أن يُشيَّع آخر إنسان على الأرض”

وأخيرا، المغامرة الغامضة اسم على مسمّى، تجربة رائعة تحكي عن سيرة رجل ومسيرة أمّة، والروائي حميدو كَن صاحب رسالة استطاع بهدوء تمريرها مخبّأة وراء ستار أحداث رمزية لا تجود للقارئ الكسول، ومن هنا تأتي عبقرية الكاتب، ولئن كان جلّ الأعمال الروائية في تلك الحقب حاولت بشكل أو بآخر تصوير حالة انفصام شخصية الإنسان الأسود جراء التثاقف الإفريقي الغربي، فإنّ المغامرة الغامضة كانت من أقدرها على ذلك، والرواية قابلة للقراءة من ألف زاوية وزاوية ، ولعلّ الزاوية الإسلامية منها أجدر بالاعتناء والاهتمام، وهنا يأتي عمل المترجم الفذ الأستاذ محمد سعيد باه مكمِّلا وكاشفا لبعض الحيثيات الغامضة من هذه الرواية وخاصة من خلال مقدمته الماتعة للنسخة المترجمة.

 

 وإليكم بعضا من المقتبسات في ثنايا هذه الروائية ذات البعد الفلسفي:

   Lorsque la main est faible, l’esprit court de grands risques car c’est elle qui le défend.

عندما تكون اليد قاصرة فإن الروح تدخل في مخاطرة لأنه قد فقد خط دفاعه الأول

——

La noblesse est l’exaltation de l’homme, la foi est avant tout humilité”

النبل ليس إلا تمجيدا للإنسان، أما الإيمان الحقيقي إنما هو في التواضع

——-

 La civilisation est une architecture de réponse. Sa perfection, comme celle de toute demeure, se mesure au confort que l’homme y éprouve, à l’appoint de liberté qu’elle lui procure

إن الحضارة معمار من الأجوبة، فروعتها، ككل مسكن، تقاس بالنسبة إلى مدى ما توفره من الراحة التي يجدها الإنسان فيها، وبقيمة الحرية التي تهبها للإنسان

—–

  L’extérieur… détruit l’homme et fait de lui une victime de tragédie. Une plaie qu’on néglige ne guérit pas, mais s’infecte jusqu’à la gangrène. Un enfant qu’on n’éduque pas régresse. Une société qu’on ne gouverne pas se détruit

الخارج … يحطم الإنسان ويجعل منه ضحية المأساة. إن الجرح الذي يهمل لا يندمل، بل يتعفن ويتحول إلى دمل، والطفل الذي لا يربَّى يصاب بالنكوص، والمجتمع الذي لا يُساس يتفكك،

—–

La mer est telle que tout ce qui n’est pas elle y flotte”

إن البحر هو هو بحيث كل ما ليس منه مما يطفوا على سطحه مجرد عدم

—–

  Les haines les plus empoisonnées sont celles qui naissent sur de vieilles amours”

إن البغض الأشد فتكا والأكثر سُمًّا هو ذاك الذي يولد على أنقاض حب قديم

 

 

  _______________________

 ** شيخ حامد كن مثقف وكاتب سنغالي، تولى عدة وزارات في عهد سنغور.  ولا يزال، رغم تقدمه في العمر، يواصل الكفاح في معترك النهوض بالوطن وهو رجل معروف بالشهامة والثبات على المواقف ما جعله يرفض قبول عرض سنغور بتعيينه نائبا للرئيس بعد اعتقال الرئيس محمد جاه عام 1963م.  وله روائية أخرى بعنوان “سدنة الهيكل” بالفرنسية ينتقد فيها الطريقة التي مارست بها الطليعة السياسية الحكم بعد رحيل المحتل.

** الأستاذ محمد سعيد باه: أستاذ جامعي، وكاتب وباحث مرموق له مؤلفات مطبوعة، ومقالات منشورة في العديد من المجلات العربية والإسلامية. وهو واحد من مؤسسي الحزب الإصلاحي   MRDS ذي التوجه الإسلامي في السنغال.

 

5 تعليقات
  1. غير معروف يقول

    ما شاء الله قراءة موفّقة، بارك الله في الكاتب.

  2. أبو سلمان جينغ يقول

    أحسنت يا دكتور

    1. فاطمة يقول

      ههههه

  3. […] قراءة في رواية: المغامرة الغامضة لشيخ حاميدو كان […]

  4. فاطمة يقول

    رواية جيدة ومفيدة وتحتوي على عبر كثيرة❤❤

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.