قراءة في أحداث مالي: تبعثر ورقة فرنسا وصبيانية إيكواس

 

 

 

 

 

 

إبراهيم جينغ، الكجوري

 

كانت إفريقيا الغربية أو السودان الغربي عبارة عن دولة كبيرة واسعة، تجمعها إمبراطورية غانا قبل قرون مضت، ثم مالي الإسلامية، ثم سونغاي التي سقطت منذ عهد غير بعيد فأصبحت الإمبراطورية مملكات وإمارات كثيرة تضم كل القبائل والأعراق المصرية الزنجيّة التي غادرت نهر النيل من الشرق إلى نهر السنغال في الغرب، الشيء الذي يدل بالأساس على أن هذه الشعوب واحدة في النشأة ومتحدة في الثقافة والحضارة.

لكن لسوء الحظ نجح المستعمر في تشتيتهم وشكّلهم إلى بلدان ودويلات تتّفق مصالحهم طورا وتتغاير طورا آخر، بحيث يستطيع المستعمر أن يتحكّم عليهم ويتلاعب بهم كيفما يريد، يستخدم البعض كعصا يضرب به الآخر، وهم لو اجتمعوا لتمكنوا من ترحيله إلى حيث جاء، ولتصبح فرنسا بذلك أفقر بلاد الله على الإطلاق!

إن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي لا تزال تملك مستعمرات في العالم، والمسألة بالنسبة لها تتعدى مسألة الاستيلاء والقضاء على الغير فقط، وإنما هي مسألة حياة وبقاء، ومسألة عيش ووجود، فلا تفارق المستعمرات إلا وستظل أفقر وطن وأخفها وزنا في الجيوسياسية العالمية.

فلو لا المستعمرون الجدد لا تكون لفرنسا أية قيمة في العالم، ولا تكون مثلا من أوائل المصدّرين للذهب ولا من أغنى دول أروبا في النفط والإريثوم والغاز…

 كل هذا يوميء إلى أن علاقة فرنسا بإفريقيا ليست علاقة كفو طبعية، ولا ثنائية تبادلية عادية، وإنما هي علاقة عبوديّة استغلاليّة، أو نكاح إجباري لا خيار فيه ولا طلاق!

غير أن المريح المبشر بالخير هو أن الشعوب الإفريقية، أو الشبان في منطقة الغرب الإفريقي شرعوا منذ عهد غير طويل يفهمون الحال، ويعرفون الجيوسياسية العالمية والنزاع الحضاري العالمي واستراتيجيات القوّات الحاكمة ربما بأكثر ممّا تعرفه فرنسا نفسها فضلا عن عملاءها الذين تختارهم باسم الديمقراطية المستعارة المزيّفة!

والذي يحدث في مالي بداية نهاية للهيمنة الفرنسية فحسب، وكما يقول المثل الولوفي، فلربما شيء يشبه منفعة وهي في الحقيقة مضرة!

 (bari na loy Niro kaañ, te ngaañ la)))

ففرنسا كانت تحارب ليبيا ونظام معمر القذافي بالنظر إلى كونه مهددا مركزيا لمصالحها ولمصالح الاتحاد الاروبي في إفريقيا، وهذه الحرب التي خاضتها فرنسا في الصحراء انتهت نيرانها إلى المنطقة الغربية لتكون مالي أوّل ضحيّة تذوق مرارة الحرب. وفرنسا بدورها انتهزت الفرصة لتسيطر على مناجم الذهب والمعادن الطبيعية في مالي، فباسم الإرهاب المزيّف تدخّل في مالي بجيش البرقان لتكون هي من تحارب نفسها بنفسها، وما دام الأمر كذلك فالحرب لن تضع أوزارها إلا إذا انتهت المناجم هنالك أو تقطعت مالي إلى دويلات عديدة، فمحاربة الإهاب ثمت ليست إلاخريطة استراتيجيّة رسمتها فرنسا لسرقة معادن مالي الطبيعية.

  والشاهد هو أن فقدان الأمن في مالي دام عشر سنين بوجود العسكر الفرنسي ولم يتغير أي شيء يذكر، أو إن تغيّر شيء فهو اكتشاف الشعب المالي على أن الإرهابيين هنالك هم الفرنسيون أنفسهم، فعلوا ذلك بالتواطؤ مع عميلهم الرئيس إبرايِم بوبكر كيتا ليستأثروا بالمناطق المعدنيّة بمعزل عن المعسكر المالي الذي حُرم وأُفلس من جميع الآليات الحربية الفعّالة لمواجهة الإرهابيين، أو الفرنسيين إن شئت!

من هنالك تماسك الشعب وعزم على إسقاط حكمIBK  من غير ما نظر في المآلات كما هو الحال الدائمة في كل الثورات الإفريقية، عزموا على إسقاطها عند غياب حليف ينوب عنه، أو وضع استراتيجية محكّمة تنقذ الثورة من أيدي العسكر!

  فاستوت الثورة مؤخرا على أيدي العسكر، لكن للخير في الشعب أن كان العسكر – بفرض كونهم من السكان – يتعقّلون الوضع بأعلى مما يتعقّله الشعب، فتسلموا السلطة من العميل ليعيدوا صياغة السلطات وبناء الوطن بطريقة يرضاها الشعب، ولأول مرة في التاريخ نشاهد إنقلابا عسكريا يبارك له الشعب في كل المستويات، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن الشعب المالي الشقيق متضجر حقا  من الوجود الفرنسي ومن عملاءها الخائنين، كما يدل بالأحرى على أن الشعوب الإفريقية لاتشغل بهم الديمقراطية بوسمها بقدر ما يشغلهم التقدم والتطور أو الاستقلال من فرنسا الخبيثة بحد سواءٍ من بين أن يتم من قِبل العسكر أومن قبل المدنيين، فالإنقلاب في مالي لم يكن بالمرة متجانسا مع الوعي الشعبي أو مع الديموقرطية بمفهومهم.

  والملاحظ هو أن الطريقة التي سلكها العسكر كانت ملائمة لمطلب الشعب المالي، وإلا فكيف يُفسر أن يكون للعسكر هذا الالتفاف الشعبي الذي لم يتمتّع به كلّ من الرئيس ماكي سال في السنغال، والرئيس ألَسان وترا في ساحل العاج…

  وآخر أمر- في الحقيقة – هو ما أغضب فرنسا ودفعها تفقد الأمل في المنطقة وتظن أنها لا محالة ستغادر رغما عن إرادتها هي تلك العقود الاتفاقية الدّفاعية التي أبرمتها الحكومة الماليّة مع حليفها الجديد روسيا، هذه الإتفاقية في نظر الخبراء لها أبعاد سحيقة جدا حيث تمثّل اللبنة الأولى لإفراغ الوجود الفرنسي في مالي وفي إفريفيا ثم في أروبا.

ويحسن أن ننبّه هنا بأنّ هذا التحالف الجديد بين مالي وحلفاءها ينبغي أن لايكون هو الآخر عبارة عن دوران وتبادل النوبات من بين القوّات العالمية، فرنسا ثم روسيا فالصين وتركيا…فلتكن علاقة مرحلية كفوية تؤهلنا للمشاركة في النزاع العالمي بحضاراتنا وبمصالحنا.

ويبدو أن القادة في مالي واعون بذلك جدا وسينتبهون له.

  أما فرنسا الخبيثة فلا تهمّها في الأصل غير مصالحها وهيمنتها على المنطقة؛ فلا تعنيها أن تكون الحكومة انتقاليّة أبدية أو عسكرية اوغير ديموقرامية، كلما يهمها هو أن تبقي مالي تحت قبضتها ووصايتها وهذا فيما يبدو لا ينجح بالنظر إلى الأسلوب الذي اختاره الشعب المالي وجيشه؛ لذلك في البداية حاولت الخبيثة خداعهم إلى اختيار عميل مدني يدافع لها عن مصالحها كالعادة، فوافقوا على ذلك مبدئيا ثم أدركوا بعد قليل من الوقت أن المختار الموصى به خائن، وأن الوطن لا يمكن دفعه إلى المدنيين في هذا الظرف.

هنالك آثر العسكر أن يقود الوطن إلى عام فتستقر الأمور ويعيدون السلطة إلى المدنيين، سوى أن المتغيّر في القضيّة والمستجدّ فيها هو اتفاق الشعب بكيانه على أن يبقي العسكر في الحكم من ستة أشهر إلى خمسة أعوام، وهذا في الحقيقة تحسبها فرنسا انقلابا تقنيّا على مصالحها، ومن ثم ابتدأت السيناريوهات!

نزول شركة فاغنير الروسية في الأراضي المالية عطّلت بالشكل الكلي الفخوخ الأمنية التي وضعتها فرنسا؛ لأنه أولا ستزوّد الجيش المالي خبرة أخرى فائقة، وستمنع فرنسا من مواصلة خطّتها لسيطرة المناطق الحساسة مناطق المعادن والمناجم.

تصدّمت فرنسا كثيرا من هذه الصواعق المرسلة إليها، لكنها لاتستطع حيالها غير شيطنة الشركة من أنّها شركة مليشيّة روسية ولا تتعدى ذلك أبدا؛ فهي تعرف الشركة وتعرف الحكومة التي تملكها بالوصاية ما لها من القوة والوزن الثقيل في الجيوسياسية العالمية!

فالخيار الوحيد لدى فرنسا هو أن تستخدم عملاءها جيران مالي وتضربهم عليها، لكنه يحتمل جدا أن لا تنجح أيضا في هذه الخطة.

السنغال وساحل العاج، أو بتعبير أقرب إلى الإنصاف ماك سال وألسان وترا يفرضان على مالي إملاءات فرنسا حرفية كما كانت، يقومان بحصار مالي ثم حظر حساباته في البنك المركزي لعملة سيفا.

والحصار قد يصعب لهما تحقيقه بالكلي فهناك جيوسياية إقليمية ينتازع فيها السنغال وساحل العاج أساسا، ثم موريتانيا وغينيا والجزائر، فالسنغال إن طبّق الحصار سيفقد عمولتها من إصدارات مالي واستيرادها التي قد تبلغ 818 مليون دولار في السنة وتزن مبلغا ثقيلا في المنتج الخام الإجمالي للسنغال، بالجانب إلى المحصولات غير الرسمية المتمثلة في القطاع غير الرسمي.

وساحل العاج يكون في المرتبة الثانية بعد دكار، إضافة إلى أنها تتنازع مع السنغال في الملف، وتتنازع معهما فيه الجزائر وموريتانيا…

يعني أن مالي لا يفقد شيئا في هذا الحصار، بل السنغال فقط هي من تخسر؛ فهو كما يقول المثل الولفي

  (( sàmba ay bañ kumba ay raso))

يعني أنه ترفض السنغال وتقبل موريتانيا أو الجزائر فينتهي الأمر.

 وشيء آخر، هو أن غينيا كناكري لم توقع على قرار إيكواس بل تراه قرارا غير قانوني بالامتياز، وهو يعكس القرار كليا، الأمر الذي يساعد مالي من ناحية أخرى؛ فحدود مالي وغينيا كناكري هي نفس حدودها مع السنغال.

نعرف إذن بأن الحصار لا ينفع كثيرا، ومن يبل مستلقيا فإنّما يبول على نفسه، ثم إن شعوب الإمبراطورية المالية المتمثلة في جميع دول إيكواس لا توافق على قرار القيادات، وبالتالي سيتعذر فرض تطبيقه على الشعوب، إنها ستتعامل إلى آخر قدر ممكن، ومن المحتمل جدا أن تنفجر هنا قنبلة أخرى، فإن دار الحصار لأكثر من برهة سنتقلب الشعوب على قاداتهم العملاء.

أما بالنسبة لحظر الحسابات في البنك المركزي، فهو في الحق قرار مؤلم ومؤثر جدا، تبقى أشهر فقط لتعانى الحكومة المالية قدرا من المشكلات الإدراية وقدرا من المشكلات التجارية الداخلية والخارجية، لكنه يتيسر لها الخروج من المشكلة إن تمكّنت الحكومة الانتقالية أو الرسمية في تقديري من صناعة عملة جديدة وتخرج مع الظرف من منظمة “إيموا”  أي عملة سيفا، وهذا أراه ممكنا فمالي تملك آليات تضمن لها ذلك، ومن وراءها الصين وروسيا، ومن أهداف الأخيرة أنها تحارب عملة سيفا من ناحية ما!

وكل هذه العقوبات شرعنتها منظمة إيكواس على أساس واحد، وهو أن الحكومة الانتقالية جاءت عن طريق الانقلاب العسكري، وبالتّالي فهي حكومة غير شرعية، وهذه كلمة حقّ أريد بها الباطل، فإيكواس فيما تقوله الشعوب الامبراطورية المالية عبارة عن رؤساء مجتمعين يطرى بعضهم البعض، ويساعد بعضهم الآخر على قهر شعوبهم ولا غير! فهناك ألوف ملفات تخصّ الشعوب واستقرار المنطقة ولم تقل فيها المنظمة أيّة كلمة تشكر، مثل قضية الولاية الثالثة اللادستورية التي تشبه انقلابا تأسيسيا للانقلابات العسكرية.

 وخروج الشعب المالي مساء الجمعة الماضية للمظاهرة ضد القرار رسالة واضحة على أن شعبية العسكر أقوى من شعبية كل رؤساء المنظمة، أو على الأقل هي أقوى من شعبية الرئيس ماك سال ووترا الذي انقلب على الدستور الإيفواري قبل عام مضى!

والذي يريده إيكواس من الحكومة الانتقالية طرح تعجيزي غير ممكن، فهو صفحة موقّعة من عند فرنسا يسهل لها الانقلاب على المشروع بطريقة أو بأخرى، وإلاّ فإيكواس لا تهمه الانتخابات ولا شفافيتها. تخيل أن السنغال بما توصف بها من الديموقراطية لا تشرع لكل المواطن بأن يصوّت، بل هناك من يصوّت ومن لا يصوّت، ولا يحقّ للمعارضة هنالك أن تطّلع على السجل الانتخابي قبل موعد الانتخابات، وكذلك يمكن للحاكم ماك سال أن يحبس في السجن أيّ معارض جادّ يعارضه، ولا يصغي إلى توجيهات إيكواس ولا يبالي بقراراته، ذلك لو كان إيكواس يهتم بالأمر أصلا، أو تكون له كلمة تُسمع، وقل نفس الشيء في ساحل العاج وتوغو أو في كل الدول الفرنكوفونية هنالك في المنطقة.

وللعلم فهذا الظرف في مالي يتغاير تماما مع تنظيم الانتخابات، فهناك أقاليم وشعوب وقعوا ضحيّة على أيدي المتمردين منذ عهد، وهؤلاء الشعوب الكثيرة لا يُتصوّر أن تحصل إنتخابات نزيهة وهم بوفرتهم يغيبون عن صناديق الاقتراحات، فالأولويّة لدى الشعب المالي تكمن في استرجاع أراضيهم المغتصبة وضمان الأمن والاستقرار وليس الخوض في انتخابات!

 إلاّ أن إيكواس كمنظمة منافقة أغمضت البصر عن لب الموضوع وركّزت الناس في شرعية الحكومة، وأكثر حكومات المنظمة ليس شرعيّة ولا شعبية!

وهذه المظاهرات الكثيفة التي شهدتها مالي ألغت بالشكل العام كل خطط فرنسا وعملائها، الذين كانوا يودّون تجويع الشعب ودفعهم إلى الانقلاب ضد العسكر لتكون لهم ذريعة إلى إقناع الرأي العام العالمي على أن الحكومة الانتقالية حكومة قهرية غير شرعية، لكن ذلك لم يعد ممكنا بعد أن حدث الذي حدث!

وإن صحّ أن فرنسا تتفاوض مع الحكومة العسكرية في أمر استئناف رحلاتها الجويّة إلى بامكو ستكون ضربة قاسية    على المتجوّلين المتخبطين عملاء إيكواس!

وكل السينوريوهات محتملة ففرنسا الخبيثة لم تعد تملك خيارا!

ومن هنا يتبيّن جليّا أن فرنسا ليست بشيء، وأنها أضطر دولة من أن تسيطر على قرية عازمة حازمة فضلا عن دولة وشعب أبيّ مثل الشعب المالي الشقيق. تحياتي لكل الأباة والمناضلين، وتحيّاتي الحارة إلى كل إفريقي يهمه الاستقلال ويسعى إليه!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.