خدمة التراث العلمي في أفريقيا ــ عقبات وحلول:

(*) محمد مصطفى جالو

لما دخل الدين الإسلامي في أفريقيا وجد ترحيبا حارا، وقبولا منقطع النظير من قبل أبناء القارة السمراء، فدخلوا فيه أفرادا وجماعات، وأقبلوا على تعلمه والتفقه فيه، ومراعاة تعاليمه في تصرفاتهم القولية والفعلية.

عرف مسلمو أفريقيا أن الدين الإسلامي الذي اعتنقوه دين علم ومعرفة، قبل أن يكون دين قول وعمل؛ فسعوا سعيا حثيثا في طلب العلم، والارتحال إلى البلدان المشهورة بالعلماء لينهلوا من معين معارفهم.

وقد آتت ثمار هذه الرحلات العلمية أكلها حيث عاد كثير من أولئك الذين نفروا للتفقه في الدين وتحصيل علوم الوسائل التي تساعد على فهم الشريعة، عادوا إلى قومهم حاملين علوما جمة في مختلف الفنون الشرعية واللغوية، بل إن كثيرا من أولئك صاروا جهابذة، فألّفوا في شتى الفنون، ونظموا منظومات متينة في الفقه والعقيدة، والتفسير، وعلم السلوك والسيرة النبوية بعضها بالعربية وبعضها الآخر باللهجات المحلية، بل إن لبعضهم استدراكاتٍ فقهيةً على بعض العلماء في المذهب المالكي ما يدل على مدى تمكنهم في العلوم وكثرة مؤلفاتهم وتنوعها.

ولا شك أن القارة السمراء بحاجة ملحة إلى استخراج تلك الكنوز الدفينة دراسة وتحقيقا، جمعا وتحليلا نقدا واستدراكاً؛ حتى يكون تراثنا العلمي أقرب إلى الكمال البشري، ويستنير بها الجيل الحالي في بناء المستقبل، وحتى يعرف الناشئة أن أجدادهم أبلوا بلاءً حسنا في خدمة هذا الدين الحنيف.

وقد أصبح تحقيق ذلك أمرا ميسورا، خصوصا أن كثيرا من أبناء القارة انخرطوا في سلك الدراسة الأكاديمية، فتعلموا مناهج البحث، وفن تحقيق المخطوطات.

ومع كثرة المؤلفات الأفريقية في مختلف الفنون الشرعية واللغوية يجد الناظر أنها لم تحْظ بالعناية التي تستحقها، فكثير من تلك المصنفات لم تر النور بعد، وبعض الموجود منها لم يحقَّق تحقيقا علميا يليق به، وعدد لا بأس من المنثور منها لم يجد من يجمعها في عقد متسق حتى يسهل الإفادة منه، فما الذي يا تُرى حال دون ذلك حتى جعل كثيرا من دارسي العربية في أفريقيا يولون أدبارهم عن خدمة التراث العلمي الأفريقي، وما هي الحلول المقترحة التي تشجع الباحثين الأفارقة على الاهتمام بتراثهم العلمي وإبرازه للعالم المعاصر؟.

عقبات في طريق خدمة الترث العلمي  الأفريقي:

هناك عقبات أمام الباحث الأفريقي تحول دون خدمة التراث الذي خلّفه لنا الأجداد محصورة في الآتي:

تقديس التراث العلمي الأفريقي، وإنزاله منزلة العصمة:

من الأمور المتقررة في الشريعة الإسلامية أن العصمة ليست إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن عداه وإن بلغ من العلم والمعرفة ما بلغ يُعتبر ما يصدر منه معرض للإصابة والخطأ، وقد أكد هذ المبدأ أفضلُ الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول ما تولى الخلافة في خطبته البليغة المشهورة حيث قال فيها:

( … فإن أحسنت فأعينوي وإن أسأت فقوموني…)، فإذا كان أبو بكر رضي الله عنه مع جلالة قدره يعترف أمام الناس بأنه يخطئ ويطلب منهم أن يقوّموا له خطأه متى ما اكتشفوا ذلك فغيْره ممن دونه أولى أن يُبَين له ما جانب فيه الصواب وحاد فيه عن الصراط السوي.

لكن الناظر في حال كثير من تراث أجدادنا يجد أن البعض منا يضفي عليه طابع العصمة، فيرفعه فوق نتاج الفهم البشري، بل ويعتقد أن استدراك صاحبه من الجرائم التي لا تغتفر؛ ما جعل كثيرا من الدارسين يعْدلون عن تحقيق تراثنا العلمي.

احتقار بعض الدارسين للتراث العلمي الأفريقي:

المفترض من كل قوم أن يقوموا بعناية تراثهم العلمي، لأنه من نتاج أفكار أجدادهم، فإذا لم يقوموا بخدمته فسيبقى مدفونا في المتاحف والصناديق لا يُنتفع به إلا في نطاق ضيق، وإن وُجد من يوليه اهتماما من غيرهم فقد لا يصل إلى المعلومة الحقيقية كما يصل إليها الباحث الأفريقي، وإن وصل إليها فقد يخرجها مغشوشة، أو يتصرف فيها تصرفا غير موضوعي، قالوا قديما: أهل مكة أدرى بشعابها.

هذا، فإن بعض الدارسين ولّوا أدبارهم عن خدمة تراثهم وإبرازه للعالَم، ولعل السبب في ذلك أنهم يعتبرون أن تراثهم دون تراث الآخرين في القيمة والمادة، مع أنه في الغالب لا فرق بينه وبين غيره من تراث الآخرين؛ فإنه يتفق مع غيره في أنه نتاج فهمٍ للشريعة، بل بعضه لا يكاد أن يعدو مجرد نقل حرفي أو معنوي لمصنفات علماء ربما الباحث الأفريقي المعاصر قام بتحقيق تراثهم في إحدى أطروحاته العلمية.

عدم توفر الإمكانيات التي تساعد على خدمة التراث العلمي الأفريقي:

لا يخفى على أحد أن الدراسة العربية لم تحظ بالعناية التي تليق بها، فمنذ أن بسط الاستعمار نفوذه في القارة وبدأ يزرع ثقافته في عقول أبناء القارة ويُسقيها بلغته، صاحب ذلك محاربةَ العربية وإقصاءَها عن الساحة التعليمية وذلك بتقليل شأنها وشأن المستعربين وحرمانهم من الامتيازات التي كانت لدارسي لغة المستعمِر، ولم يختلف الأمر بعد الحصول على الاستقلال، حيث إن المثقين الذين أصبحت زمام الأمور بأيديهم لم يهتموا بالتراث الإسلامي العربي بحكم أنهم من الطبقة التي تربَّت على يد المستعمر وتغذت بثقافته، ولذا نجد أن الجهود التي حظيت بها اللغة العربية تكاد تكون جهودا فردية، وهذا بالطبع جعل حركة خدمة التراث العلمي الأفريقي بطيئة، فلا يكاد دارس العربية في أفريقيا يجد مراكز علمية وبحثية مرموقة وعصرية تعتني بتحقيق هذا التراث وجمعه وإخراجه اللهم إلا مراكز أدرج فيها ما يتعلق بالتراث العلمي الأفريقي.

صعوبة الوصول إلى التراث العلمي الأفريقي:

ذالك أن التراث العلمي الأفريقي يكون أحيانا بأيدي أناس قد لا يسهِّلون للباحث الراغب في خدمته الوصولَ إليه، ظنّاً منهم أن ذالك هو الطريق الأمثل لحفظ تراث مورِّثهم؛ ما يعرضه للأرضَة الآكلة للمخطوطات والرطوبة المتلفة لها مع كرور الليالي والأيام، خصوصا إذا كان ورثة العالم لا علاقة لهم بالعلوم الإسلامية العربية، فقد لا يعرفون قيمة ما خلّفه مورِّثهم وأهميته، كما لا يعرف قيمةَ الذهب من لا يستطيع أن يميز بينه وبين ما يشبهه مما هو دونه في القيمة.

فكمْ باحثا عقد العزيمة على خدمة التراث العلمي الأفريقي، وشمَّر عن ساعد الجد في سبيل جمعه وتحقيقه وتقريبه للناس، لكنه يجد أمامه هذه العقبة التي تَثنيه عن ذلك فلا يقتحمها ويرجع بخفي حُنينٍ.

حلول مقترحة لاقتحام هذه العقبات:

يمكن استخلاص الحلول المقترحة من خلال ما سبق ذكره من العقبات على النحو الآتي:

إنزال التراث العلمي الأفريقي محله بلا وكس ولا شطط:

لا شك أن المشايخ الذين أثْروا المكتبة الإسلامية الأفريقية بإنتاجاتهم الفكرية كبارٌ، ولهم علينا حق الاحترام والتقدير والشكر، لكنّ ذلك لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى إضفاء القداسة على ما جادت به قرائحهم النيرة، أو يوصلَنا إلى إحلال أقوالهم محل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو يجعلَنا نعتقد إحالة نقد ما كتبوه نقدا علميا نزيها رصينا؛ فإن ذالك كثيرا ما يسبب توقف الحركة العلمية والجمود الفكري في الأمم.

على أن المنبري لنقد واستدراك التراث العلمي الأفريقي يجب أن يكون قائده في ذالك الإخلاص والموضوعية، لا الحسابات الشخصية، أو النعرات الطائفية، أو المصالح الشخصية، وليقدم الشفقة والرحمة وإعذار المنتقَد قدر المستطاع، وإذا احتمل فكره محملا حسنا وآخر سيئا فليقدِّم حسن الظن على سيئه.

نشر قاعدة: أن القبول المطلق ليس إلا للمعصوم صلى الله عليه وسلم:

فإن ذالك ـ بإذن الله ـ يكسر الغلو الذي يوجد عند بعض منْ يرفع علماءنا فوق منزلتهم، فينبغي ترسيخ القاعدة السابق ذكرها في عقول هؤلاء الغالين حتى يكون عندهم استعدادٌ في تقبل نقد متبوعهم، كما ينبغي البيان لهم أن نقد واستدراك اللاحق بالسابق لا يلزم منه الحط من قدر السابق، أو عدم محبته، وإنما يعني تقويم عمله ليكون أقرب إلى الكمال.

وهذا المقترح يتجه أكثر إلى الذين لهم كلمة مسموعة، ولهم أتباع يأتمرون بأمرهم، وينتهون بنهيهم، فلا ينبغي تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا السكوت في مقام البيان.

تثقيف الناس حتى يعرفوا أهمية نشر هذا التراث العلمي وما فيه من الأجر الوفير:

إن توعية الناس وتثقيفهم حتى يعرفوا أهمية تحقيق التراث الذي بأيديهم، وما يعود علي صاحبه من الخير العميم والثواب العظيم سبب كبير في سهولة الوصول إلى هذا التراث، ويكون ذالك بالبيان لهم أن هذا التراث علمٌ شرعي، والجيل الحاضر بحاجة إليه، علاوة على ذالك سيكون لصاحبه في خدمته أجر  كبير إن شاء الله، بل كل من انتفع به يكون له فيه أجر دون أن ينقص من أجور المنتفعين شيئا، وأن ذالك سوف يُدخل صاحبه في عداد أولئك الذين يتواصل أجرهم وهم في أضرحتهم.

إنشاء أوقاف تعتني بجمع هذا التراث:

لما كان التراث الإسلامي العربي شبهَ مهمل من قبل حكوماتنا فينبغي البحث عن بديل مناسب لخدمة هذا التراث العلمي الضخم، وأرى أن أمثل طريقة لتحقيق ذالك هو إيجاد أوقاف تعتني بهذا الجانب.

حيث تقوم هذه الأوقاف بإعانة كل باحث راغب في جمع التراث الإسلامي العربي، وتزوّده بما يحتاج إليه من شراء المخطوطات، وتذاكر الأسفار التي يحتاجها أثناء رحلاته العلمية، بل يمكن لهذه الأوقاف ـ إن أُحسِن إدارتها ـ أن توفر للباحث الأفريقي مراكز بحثية  تضم أحدث الأجهزة التي تعالج المخطوطات التي فيها ضربٌ أو رطوبةٌ أو تلفٌ يحول دون إمكان قراءة المخطوطة.

هذه أفكار كانت تردني فأقيدها، وها أنا اليوم أقدمها للباحثين الأفارقة مع يقيني بأنها ليست على المستوى المنشود، لكن يكفيني أني طرقت هذا الباب المهم للباحثين الكبار، علَّهم يبدعون الكتابة فيه في مقالات أو بحوث في المستقبل القريب.

(*)  باجث في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

 

 

4 تعليقات
  1. غير معروف يقول

    أحسنت أخي العزيز،الباحث القدير محمد مصطفى؛ فقد تناولت الداء وأرشدت إلى الدواء. وعندي إضافة قد لا تعدو كونها شكلية، وهي: أن موضوعا كهذا لا شك أن أيادي الباحثين قد قلبته يمينا وشمالا فيحسن الرجوع إليهم والبناء على جهودهم، وذلك يزيد المقال أصالة وقوة – بنظري – ثم إن من يتابع مجريات الأمور في الآونة الأخيرة يجد أن هناك تحسنا ملموسا في التنقيب عن أسرار التراث ومحاولة تقويمه ولو بصورة غير مقنعة،عموما مثل هذا المقال فصل ضمن ما نحتاجه بالامم تتفاوت بتفاوت تعاملها مع تراثها . وجزاكم الله خيرا

  2. أبو سلمان السنغالي يقول

    مقال جميل ،ورصين؛ جاء ليعالج معضلة تفاقمت أوضاعنا الثقافية، وصرنا ذيلا وراء الأمم الأخرى في كل منحى من مناحي الحياة العلمية والثقافية، وهو في الحقيقة واقع لا يسر أي أفريقي يعتز بهذه القارة، ويتمنى أن تتصدر أبناؤها وكوادرها الصف الأول، أو يكونوا ممن يتصدره في أقل تقدير، فجزى الله خيرا الباحث القدير الدكتور محمد المصطفى جالو، صاحب الأيادي البيضاء والمتوضئة في البحث والكتابة، وخدمة التراث الإسلامي برمته، والدعوة الإسلامية !!

  3. غير معروف يقول

    بوركت همتكم فقد كانت المقالة على المستوى الفكري واللغوي المطلوب

  4. غير معروف يقول

    مقال جميل ورائع بمعنى الكلمة… ونتمنى رؤيته في صورة أوسع من ذلك حين يكون لديك الوقت الكافي بزيادة الجهود المبذولة في ذلك مع ذكر الكتب المحققة، ولا بأس بقائمة نموذجية عن أهم الكتب في التراث العلمي ولو لدولة أفريقية واحدة، وهذا ربما يفتح للقارئ الذي كان يرغب في ذلك اختيار أحد الكتب في سبيل خدمته.

    وشكرا لكم مجددا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.