تنسيقية الجمعيات والحركات الإسلامية في السنغال…… معالمٌ وآفاقٌ (الجزء الأول)

(*) محمد بشير جوب.

كتب الله على كل الدعوات الإصلاحية أن تمر بمنعطفات تتحكم عليها عوامل الصعود والهبوط، وعوارض المدّ والجزر إلى أن تُحقق أهدافها، ويصدق هذا أكثر على تلك الدعوات التي تتخذ من الدين الإسلامي مرجعاً لها، وتحاول رفع راية الإسلام ورسالة الأنبياء ليسود على الأرض من جديدٍ، لكن تبقى همة الرجال والثبات على المبادئ هو الرقم السري الصعب لكل دعوةٍ يريد أصحابها تحقيق أهدافها السامية؛ للوصول بها إلى بر الأمان.

ولقد حقّت هذه السنة على الدعوة الإصلاحية في السنغال منذ بدايتها، فمرت هي الأخرى بمحطاتٍ مختلفةٍ، تعرض رجالها في مسيرتها لأنواعٍ مختلفةٍ من التحديات، لكن استطاعوا حسب تقييماتهم لتلك التحديات ومايحتاج إليها من ردَّة فعلٍ، تقديم أحسن مالديهم من حلولٍ، ولعلّ من أهم الأهداف التي حققوها خلال هذه المسيرة، الحفاظ على بيضة هذه الدعوة، فلم ينفرط العقد الإسلامي في السنغال، ولم تتعرض الهوية الإسلامية فيها للضياع، رغم أن المهددات ماغابت ولن تغيب يوماً.

في ظل هذه الزوبعات والمنعرجات يجد العمل الإسلامي في السنغال نفسه اليوم في مرحلةٍ فارقةٍ، بعد أن اقتنع قادته بضرورة تقييم مواقفهم، ومراجعة حصيلة المسيرة الطويلة التي خاضوها معاً، فوصلوا إلى نتيجةٍ حتميةٍ مفادها، إعادة توجيه بوصلة الدعوة الإصلاحية، من خلال تنسيق الجهود بغية توحيدها، ليشمل الحراكُ  جميع العاملين في الحقل الدعوي الإصلاحي، من الذين تجمعهم مرجعياتٌ ومبادئ واحدةٌ، فوُلدت بعد مخاضٍ عسيرٍ “تنسيقية الجمعيات والحركات الإسلامية في السنغال” أسسها ثلاث حركات من كبريات الحركات العاملة في الساحة، هي جماعة عباد الرحمن، وحركة الفلاح، ودار الاستقامة، وانضم إليها التجمع الإسلامي لاحقا وهو أحد الحركات الكبيرة في السنغال، وهكذا شكَّلت هذه الرباعية هذا المولود الجديد.  

ومن خلال هذه السطور سنحاول التعرف عن كثب عن التنسيقة، من خلال محاولة الإجابة عن الأسئلة الرئيسية الآتية:  ماهي مبررات وجدوى إنشاء التنسيقة؟  ماهي مكونات التنسيقية وماهي آليات عملها؟ مامستقبل التنسيقة في ظل الظروف الراهنة في السنغال؟

مبررات نشأة “تنسيقية الجمعيات والحركات الإسلامية في السنغال”

العمل الدعوي عمل جماعيٌّ كسائر الأعمال الجماعية، فهو يحتاج إلى تضافر الجهود، والتكيف مع الواقع، والتفاعل مع المعطيات الجديدة، وإلا سيغلب عليها طابع الجمود والتقوقع، والانكماش والتقلّص، وإذا استمر على هذه الحالة سيكون عاجزاً عن تلبية حاجات الناس، أو تحيقيق أي هدفٍ ملموسٍ، وسوف يقضي نفسه بنفسه على المدى البعيد، ومن هذا المنطلق يمكن أن نعتبر أن نشأة التنسيقة قامت على دراسة واقعية لمعطيات الميدان الدعوي، ومتطلبات المرحلة القادمة، أدت هذه الدراسة –في نظري- إلى الوصول إلى جملة من مبراراتٍ يمكن حصرها فيما يلي:

  • رأب الصدع بين العاملين في الحقل الإسلامي.

لايختلف اثنان في وجود فجوةٍ بين العاملين في الحقل الإسلامي في السنغال، حيث ظلت هذه الفجوة تؤثر سلباً على أداء القائمين بالعمل الإسلامي منذ انطلاقته، فلقد شوهت من صورته، وأبطأت من حركته، وقللت من منزلته، وقلّصت من نفوذه وأثره في الناس، فرغم الاتفاق على المرجعيات والمبادئ، بل حتى الشبه في كثير من ملامح الخطاب الذي يتبناه العاملون في الحقل الإسلامي؛ مع اختلافاتٍ طفيفةٍ في البرامج والوسائل، لم يكن متصوراً حتى إلى وقتٍ قريبٍ أن نرى اجتماعاً لقادة العمل الإسلامي على طاولةٍ واحدةٍ، للدخول في عملٍ مشتركٍ يكون في خدمة القضايا المشتركة التي تشغلهم، ويبدو أن هذه المعضلة لم يغب يوماً عن بال قادة الصف الأول للعمل الإسلامي، ولذلك ذكروا في النظام الأساسي للتنسيقية أن من ضمن الأهداف التي قامت من أجلها التنسيقية مايلي:

  • تقوية الروابط الأخوية والاجتماعية بين الجمعيات الإسلامية في السنغال.
  • التقريب بين أعضاء الجمعيات وإيجاد مرجعيةٍ موحَّدةٍ للعمل الدعوي.

يفهم من هذا أن قادة العمل الإسلامي أدركوا وجود حاجةٍ ملحَّةٍ أكثر من أي وقت مضى، في ترتيب البيت الداخلي لجميع الجمعيات والحركات المنضوية تحت لواء العمل الإسلامي، وأن على التنسيقية أن تلعب دوراً في سدِّ هذه الثغرة، وتجاوز هذه العقبة.

  • تشبيك العلاقات بين التجمعات الحركية والقوى الأخرى ذات الثقل في المجتمع السنغال.

العمل الدعوي والإصلاحي عملٌ مشتركٌ بين قوًى مختلفةٍ في المجتمع، ولا يمكن اختزالها في حركةٍ أو جماعةٍ أو طريقةٍ بعينها، فهو أدوارٌ متكاملةٌ كلٌّ يتحرك في دائرةٍ يعتبرها متكافئةً مع إمكاناته وطاقته وقدرته، ولا يخلو الأمر أحياناً من وجود تنوُّعٍ اختصاصيٍّ فحسب، دون وجود التضادّ المؤدي بالضرورة إلى التنافر، ولكن حصلت أزمةٌ في الثقة وسوء تفاهمٍ في عدة قضايا، أدى إلى تباعدٍ غير مبررٍ بين معظم القوى العاملة في الحقل الدعوي في السنغال، وصل الأمر إلى الترامي بالتهم والشيطنة فيما بين هذه القوى بأنفسهم.

 فالطرق الصوفية في السنغال لها منزلةٌ عريقةٌ وتاريخٌ مشرقٌ في المجتمع السنغالي، فلا يجب التنكر لها، بل يجب الاعتراف بها وبفضلها، والتقوي بثقلها الاجتماعي، كما يتحتّم على قادة الطرق أيضا إحسانُ الظن بالتيارات الإصلاحية والدعوية المختلفة، ويقتنعوا بأنها ليست إلا امتداداً لجهود الشيوخ الكبار الذين ناضلوا ضد الاستعمار، وأسسوا دعائم العمل الإسلامي في السنغال، فليست هذه التيارات بديلاً عنهم بقدر ماهي إضافةٌ جديدةٌ بنفسٍ جديدٍ لتكملة جهود رجال الدعوة الأوائل، فيجب على كلِّ فريق الكفّ عن المزايدة والتآمر ضد الآخر، ويعمل مما تيسر له في حدود الممكن.

 ومما يبعث الأمل أن النضج الدعوي وصل بالقائمين بأمر التنسيقة إلى استدراك هذه النقطة الجوهرية، وعملوا على ترسيخها، ليكون سلوكاً عاماً لدى جميع الحركات والجمعيات الإسلامية العاملة في الساحة، فنصت التنسيقية في نظامها الأساسي الذي هو مرجعها الأساس في عملها أن رسالة التنسيقية هي: ” إيجاد تنسيقيةٍ عامةٍ ينضوي تحتها كل الجمعيات الإسلامية في السنغال وتجمع كلمة المسلمين حولها وفق منهج أهل السنة والجماعة في العلم والعمل والعقيدة والعبادة والسلوك وفي المعاملات والأخلاق”.

 أعتبرُ هذه الرسالة إطاراً واسعاً يضمُّ جميع المسلمين الذين في طليعة العمل الإسلامي في السنغال، حيث خص الله تعالى السنغال بأن ساد فيها الإسلام السني الناصع، ولم يسد فيها مذهباً غير مذهب أهل السنة والجماعة، في العقيدة والعبادة والأخلاق، فيجب أن يرى كل واحدٍ نفسه في هذه الرسالة المستوعبة، إلا من دعا إلى غير ذلك.

  • تصحيح الصورة النمطية لدى السلطات الرسمية.

يتعرض الإسلام بصفةٍ عامةٍ لحملةٍ متعمَّدة يُقصد بها تشويه صورته، والنيل من ريادته العالمية في كل المجالات، ولم يسلم من هذه الحملة الحركات الإسلامية، أو الدعوات الإصلاحية ذات المرجعية الإسلامية، والحركات الإسلامية في السنغال مستهدفةٌ هي الأخرى من هذه الحملة بشكلٍ أو بآخر، ووجد القائمون بهذه الحملة الموجهة والمقصودة ضد الحركات الإسلامية في السنغال ضالَّتهم في ترويج فزّاعة الإرهاب، رغم أنها ضربت أروع الأمثلة في تبني النهج السلمي، وخاصةً بعدما أصبحت هذه الكلمة السلاح المفضل لكل من يريد أن ينال من سمعة الحركة الإسلامية.

 وتصادفت هذه الحملة مع وجود سياقٍ معقَّدٍ في المنطقة التي تُعتبر السنغال جزء منها،  حيث حصلت تطوراتٌ متلاحقةٌ في كل من دولة مالي ونيجيريا وبوركنا فاسو والكاميرون وساحل العاج، بعدما تعرض كل هذه الدول لهجماتٍ إرهابيةٍ مرعبةٍ، وضعت هذه الأحداث كل الحركات الإسلامية في المنطقة في حرجٍ، واقتضى هذا الحرج وقوف الحركات والتجمعات الإسلامية في خندقٍ واحدٍ لتوحيد مواقفها؛ لإزالة الشبهات والدسائس التي تكيدها جهاتٌ مشبوهةٌ لاختلاق أزمةٍ بين الحركات الإسلامية وحكومات دولها.

 وكردِّة فعلٍ طبيعيٍّ و إيجابيٍّ تجاه هذه المحاولات اليائسة، أرادت التنسيقية أن تقطع الشك باليقين، وذلك من خلال توجيه رسالةٍ إلى الجميع مفادها أن الحركات الإسلامية في السنغال بمختلف توجُّهاتها إنما هي عامل بناءٍ واستقرارٍ وليس معْول هدمٍ لدى أي طرفٍ لتهديد الأمن القومي السنغالي، ويؤكد على هذا التوجه ما ورد في النظام الأساسي للتنسيقية، حيث نصت المادة السابعة الفقرة الرابعة على أنَّ “التنسيقة كيانٌ مستقلٌّ لاتقبل التبعية ولا الوصاية من أي جهةٍ” كما نصت أيضاّ على أن من ضمن أهدافها “مواجهة الغلو والجفاء والنظرة الجزئية وكل التصرفات الناتجة عنها” ثم صرحت في المادة التاسعة من النظام الأساسي على أن من ضمن وسائلها “توعية المجتمع للمحافظة على الأمن العام والاستقرار والسلام”.

وجديرٌ بالذكر أن محاولة ضرب بعض الحركات الإسلامية في السنغال بالجهات الرسمية (الحكومة) جاءت في مرحلةٍ ظهرت فيها تباشير تحوُّلٍ جذريٍّ في المجتمع السنغالي، وذلك بعد الاكتشافات الجديدة لحقول النفط والغاز في مناطق مختلفة على طول البلد، فلا يُستبعد من وجود نياتٍ مبيَّةٍ  لدى أطراف معينة لاستهداف بنية المجتمع السنغالي من خلال الضرب بين الحركات الإسلامية والطرق الصوفية من جهة، ومن جهة أخرى ضرب الطوائف الدينية بالجهات الرسمية، لتعيش السنغال لأول مرة من تاريخها نزاعاتٍ طائفةٍ لاتستفيد منها إلا الجهات الخارجية التي لاتحلم إلا بوضع يدها على هذه الاكتشافات واستغلال ثروات البلاد على حساب شعبها، كما يحدث اليوم في دول أخرى، فأعتبر أن إنشاء التنسيقة ضربةٌ استباقيةٌ لإفشال المحاولات اليائسية والخفية التي تهدف إلى النيل من النسيج الاجتماعي السنغالي.  

تعليق 1
  1. غير معروف يقول

    ما شاء الله أحسنت يا دكتور بشير.. مقال قيم ومفيد للغاية.. ننتظر الأجزاء الأخرى بفارغ الصبر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.