التصوف والتنمية: الوقف نموذجا

الاعداد والتقديم: عبد الله لام (*)

بسم الله، الحمد لله، وما بكم من نعمة فمن الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثم إنه لسعادة كبيرة تغمرنا، ونحن نشارك في هذا الملتقى المبارك بإذن الله، حول التصوف والتنمية، إلى جانب علماء أجلاء نقدرهم حق التقدير.
وإن هذا الملتقى يعتبر خطوة هامة تضاف إلى جهود الانفتاح التي ما فتئتم تخطونها وتزداد جمالا وبهاء وأهمية يوما بعد يوم.
وانها لتجسيد حي لوحدة الكلمة والتنوع ، وعليه فإن الشكر موصول إلى الخليفة الشيخ سيدي مختار امباكى ، الذى جعل السبيل ممهدة لمثل هذه المبادرات الطيبة ، وممثليه الشيخ محمد المنتقى امباكى ، والناطق الرسمي باسمه الشيخ محمد البشير عبد القادر، وإلى إخواننا في دائرة روض الرياحين برئاسة الشيخ أحمد البدوي ، فهنيئا لكم جميعا ، وجزى الله القائمين على أمر الملتقى خير الجزاء ، وكل من استجاب لهذه الدعوة ، وشارك في هذا الملتقى سواء من البيوت الدينية أو المنظمات الإسلامية في الداخل ، كما نرحب بضيوفنا الأكارم من الخارج وندعو الله لهم إقامة طيبة ، وعودة ميمونة مباركة بإذن الله تعالى .
هذا ثم إن مساهمتي في هذا الملتقى ستكون بعنوان: التصوف والتنمية: الوقف نموذجا.
وقد قسمت الورقة بعد المقدمة ألى:
أولا: تعريف التنمية في الإسلام
ثانيا: تعريف الوقف وبيان حكمه
ثالثا: أوقاف السادة مشايخ التصوف في السنغال
رابعا: علاقة الوقف بالتنمية
خامسا: الخاتمة .
أولا: تعريف التنمية في الإسلام:
لم يرد مصطلح التنمية بلفظه في نصوص الشرع إلا أنه وجد بألفاظ تدل على نفس المعنى كالتعمير والعمارة والحياة الطيبة. ومعنى التنمية في الإسلام: العمل بشرع الله لتحقيق الكفاية والكفاءة للجميع للوصول إلى نمو مستمر للطيبات وذلك بالاستخدام الأمثل لكل ما سخره الله لنا من موارد.
وهذا التعريف يفهم من نصوص الشارع مثل قوله تعالى: (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) هود 61
وقوله: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) النحل 97
والتنمية في التعريف الإسلامي شاملة لجميع نواحي الحياة الإنسانية المادية والروحية والخلقية، لكون الإنسان محور العملية التنموية، ليعيش حياة طيبة هانئة مليئة بالإنجاز لينال ثمرة علمه الصالح في الدنيا والآخرة.
ومن هنا نعلم أن التنمية من العبادة التي من أجلها خلق الإنسان.
فكأن لها أخلاقيات وقيم وأهداف. ولها أدواتها من تلك الأدوات الوقف.
ثانيا: الوقف:
1ـ تعريف الوقف اصطلاحا: في مواهب الجليل قال ابن عرفة: ( الوقف… إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازما مع بقائه في ملك معطيه ولو تقديرا) .
وعرفه ابن قدامة في المعنى بقوله: ( هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ) .
2ـ حكمه: الوقف مندوب إليه شرعا، وفى حاشية العدوية: حكمه الندب، لأنه من أحسن ما يتقرب به إلى الله تعالى، وهو مما اختص به المسلمون.
وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب سبب نزول قوله تعالى: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)
روى مسلم في صحيحه أنه ( كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا، وكان أحب أمواله إليه بيرحى، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس فلما نزلت هذه الآية ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله يقول في كتابه: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) و إن أحب أموالى إلي بيرحى، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه.
ومن السنة ما ورى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:( أصاب عمر أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) قال: تصدق بها عمر، أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع، ولا يورث ولا يوهب. قال: فتصدق عمر في الفقراء وفى القربى، وفى الرقاب، وفى سبيل الله، وابن السبيل، والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه)
وأما الاجماع فقد أجمع الصحابة على جواز الوقف وندبوا إليه. ولم يخالف في ذلك أحد منهم. قال جابر لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف. ونقل ذلك الاجماع النووي والبغوى وغيرهما من العلماء.
3ـ بم يصح الوقف:
ويصح بالقول الصريح كوقفت وحبست أو كناية كتصدقت وحرمت وأبدت إذا نوى الوقف. أو بقرينة تدل عليه كأن يقول لا يباع ولا يوهب ولا يورث. أو ما يقوم مقام الصيغة في الدلالة على الوقفية عرفا، كالإذن بالصلاة في المسجد، والدراسة في المدرسة، والشرب في البئر، والدفن في المقبرة، والقراءة في المكتبة. أو غير ذلك من وجوه البرّ.
ثالثا: أوقات مشايخ التصوف في السنغال:
التصوف في بلدنا السنغال الحبيب جمع بين العلم والعمل والدعوة والإصلاح قدر المستطاع ، فمشايخنا رحمهم الله اختاروا طريق التصوف فيما بينهم وبين ربهم واجتهدوا في العبادة وأخلصوا دينهم لله، وكان تصوفهم مبنيا على العلم والعمل بالعلم، وذلك جلي في مناهج دراستهم ومدارسهم و زواياهم ، فما من كتاب من كتب الفقه في المراحل المتوسطة فما فوقها في مناهجهم إلا وفيه باب الوقف من رسالة ابن أبي زيد فما فوقه، وكان لهم حلقات لتفسير القرآن الكريم فيفسرون للناس قوله تعالى (لن تنالوا البرّ…) مبينا سبب نزوله والأحاديث التي في مثل بلوغ المرام وغيره، وعلى مبدإ العلم والعمل به أوقفوا أولا أنفسهم لنفع البلاد والعباد كما أشار أحدهم وهو يفسر لن تنالوا البرّ.
كما وقفوا مدارس لتعليم أبناء المسلمين ما يلزم تعلمه من القرآن الكريم واللغة العربية والعلوم الإسلامية وعلم الفلك والحساب والمنطق وغيرها دون مقابل، وذلك في جميع المستويات التعليمية وربما ذلك ما أدى ببعضهم إلى اختيار مذهب عدم جواز أخذ الأجرة في تعليم القرآن الكريم. ولقد وصل بهم الأمر إلى اختيار أحسن المدرسين ليعينوهم على مهمة الأنبياء الذي هو التعليم وتكفلوا بمؤونهم ومؤن عوائلهم، وذلك من وقف آخر، شعروا بضرورته، فأوقفوا أراضي ودعوا الناس إلى استغلالها وزراعتها ليعيلوا من غلتها وريعها تلك المدارس ومن فيها من طلبة العلم والعلماء وعائلاتهم.
كما شقوا الطرقات بين المدن، وأنشأوا قرى كثيرة لإيواء الناس وتأمين حياتهم يسكن فيها من شاء إذا وافق على احترام شروط السكن والجوار، واختاروا لتلك القرى والمدن أسماء إسلامية كالمدينة والطيبة ودار الهجرة وطوبى ومصر دار السلام الشّام، وبغداد ودمشق ويمن وغيرها، مما هو معروف وشائع في كل قطر نزلوا فيها. وهذه الأشياء التي ذكرتها لم تخل منها بيت من بيوتات الدينية في السنغال ، ولله الحمد والمنّة.
ثم جاء بعدهم الأولاد من الرجال والنساء فأنشؤوا أوقافا مواكبة للعصر ومن أبرزهم في الحقيقة فيما أعلم الشيخ محمد مرتضى امباكى ابن الشيخ الخديم وهو من أشهر رجالات الوقف في السنغال، حيث أنشأ مجموعة المدارس الأزهرية وشبكة النقل البرّي، والمخابز العصرية، بل وصل به الأمر إلى انشاء معاهد عليا للتكوين المهني، ولقد أحسن الشيخ سرين امباكى عبد الرحمن وأجاد فيما كتبه من وقف الشيخ محمد مرتضى بالإحصائيات والأرقام ، و يا حبذا لو حذي آخرون حذوه لتكون صورة الوقف في هذه الأسر الكريمة أوضح وأجلى للناس.
وأعرف شيخا في جنوب السنغال من هؤلاء المشايخ الأجلاء الشيخ أبو بكر نجاي ويدعى ب سرين باتي نجاي ، وقد وقف مالا كان يعيل به 120 أسرة فقيرة من زغينشور إلى تاناف إلى أن وافاه المنية رحمهم الله جميعا رحمة واسعة وتقبل منهم هذه الأوقاف، وكتب لها الاستمرارية والدوام، ويكون صدقة جارية لهم ولمن بعدهم (ونكتب ما قدموا وآثارهم).
رابعا: علاقة الوقف بالتنمية:
فالتنمية كما أسلفنا: تحقيق الكفاية للجميع تحقيقا شاملا بجميع نواحي الحياة الإنسانية: المادية والروحية، والخلقية وغيرها. وذلك يتطلب مالا وانتاجا وقيما ورجالا. فجاء الوقف: صيانة للمال وحفظا له من عبث العابثين فيبقى ويستمر ولا ينقطع ولا ينضب. وبهذا تكون التنمية باستمرار. ويكون الإنتاج، لأن المال عامل أساسي في الإنتاج فتبقى المدارس مفتوحة أبوابها على مصراعيها فتستمر الدراسة والتكوين والتربية فتتخرج الأجيال على نفس المنهج ويتوارثون العلم جيلا عن جيل فتسود في المجتمع القيم الإسلامية والإنسانية التي تربى علينا الناس من أولئك المربين الصالحين المصلحين الذين انتدبتهم تلك الأوقاف لتربية المجتمع وارشادهم إلى ما فيهم سعادة الدنيا والآخرة.
ومن هنا نقول إن تلك الأوقاف حقق لهذا المجتمع
1ـ الامن الغذائي، وتحقيق الحاجات الأساسية، كما ساهم في الاستقرار لكثير من أبناء المجتمع.
2ـ توزيع الثروة وتقليل الفجوة بين طبقات المجتمع حتى يتمكن المستفيدون من القيام بالمشاركة في ترقية المجتمع.
3ـ توفير التعليم المجاني للفقراء من خلال المدارس والمعاهد العلمية وكثير من كوادر البلد تخرجوا في تلك المدارس والمعاهد وأنا واحد منهم.
4ـ توفير الأمن الصحي من خلال المستشفيات مجانا أو بتكاليف رمزية.
5ـ رعاية الأيتام وتربيتهم من خلال الوقف وكذلك الارامل.
6ـ توفير فرص العمل والوظائف من خلال ناظري الوقف والعاملين والمشرفين والمربين وغيرهم.
7ـ المساهمة في عملية التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج كمًا ونوعا.
8ـ تربية أجيال صالحة ومصلحة يحملون مسئولية مواصلة المسيرة المباركة في قيادة هذا البلد من الناحية الدينية والإدارية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
خامسا: الختام:


وفى الختام جزى الله عنا مشايخ الصوفية خير الجزاء وجعل تلك الأوقاف في ميزان حسناتهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وإن هذه الأوقاف في حاجة إلى احصائيات وتجديد والنّص في كيفية استخدامها، وتوعية خلفهم وذويهم من أهمية الوقف وضرورة المحافظة عليها والاعتناء بها والسعي إلى عدم اندراسها. بل وتسجيلها في الهيئة العليا للأوقاف التي تم انشاؤها منذ حوالي سنتين من حكومتنا فكان مما يذكر لها ويشكر عليها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

(*) أمير جماعة عباد الرحمن -السنغال-

 

طوبى الاثنين 16/صفر/1439
الموافق 6/نوفمبر/2017

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.