التجاوزات العقدية في مجتمعنا

محمد مصطفى جالو (*)

يكاد يكون من نافلة القول – في الأوساط الطلابية – تقرير أن المقصد الأصلي من إرسال الرسل وإنزال الكتب، ونصب راية الجهاد، وانقسام الناس إلى مؤمن وكافر، وقيام العداوة بين القريب وقريبه هو توحيد الله سبحانه وتعالى وتعظيمه على الوجه الذي شرعه سبحانه وتعالى وبيّنه نبيه المجتبى.

ولذا فلا عجَب أن اهتم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بشأن التوحيد اهتماما بالغا، فقد مكث في أم القرى ثلاث عشْرة سنة يدعو قومه إلى التوحيد، ويغرس في قلوبهم تعظيم هذا الحق الخاص بالله العزيز الحميد.

ولم يكتف النبي المختار بغرس التوحيد في نفوس صحبه الكرام، بل كان يُرويه بنصوص الوحيين حتى نمى واشتد في بيئة أمن فيها من الإصابة بأمراض الشرك، والمتتبع لسيرته العطرة يتبين له ذلك جليا فقد أرشد من قال له: (ما شاء الله وشئتَ)، إلى أن يقول: (ما شاء الله وحده)، ونهى الجارية التي قالت بحضرته: (وفينا نبي يعلم ما في غد) أن تنتهي عن هذه المقولة الشنيعة التي فيها إعطاء حق خاص بالله للنبي الكريم، بل بين النبي صلى الله عليه وسلم لأقربائه وفلذة كبده فاطمة رضي الله عنها أنه لا يغني عنهم من الله شيئا، فعَل كلَّ ذلك حفاظا على جناب التوحيد من الاختراق وسدا لكل باب يؤدي إلى إبطال حق الله على عباده.

وقد سار على منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية جناب التوحيد أئمةُ الهدى ومصابيح الدجى من الصحابة والتابعين ومن اقتفى آثارهم من أرباب المذاهب وأتباعهم إلى هذا العصر.

 والناظر في حال مجتمعنا في الآونة الأخيرة يصاب بالدهشة من المخالفات العقدية الخطيرة التي تلوكها ألسنة الجاهلين من إعطاء المخلوقين صفات الله، وتفضيلهم على الملائكة والأنبياء، والتصريح بإيثار الإنتاجات الفكرية لبعض البشر على الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد.

ولا يخفى على العامي الذي لم تتلوث فطرته، فضلا عن طالبٍ نهل علمَ الشريعة من معينه الصافي أن هذه المخالفات العقدية تهدم بنيان الإسلام وتنقض عرى الإيمان، ومما زاد الأمر خطورة أن المرء يرى ويسمع من هؤلاء المنحرفين هذه المخالفات دون أن يكون هنالك إنكار صارم من السادة المطاعين أو رادع ناجع يمنع من العودة لمثله أبدا، ما نتج عنه تمادي الجاهلين في التنقيص من رب العالمين.

فوالله الذي لا إله إلا هو، إن الغيور على دينه يموت غيظا وأسفا من هذه الانتكاسة الفكرية المنتشرة في بعض بني مجتمعنا، وهذا المنكر العظيم الذي تتفطر من شناعته السماوات وتنشق الأرض من قبحه، وتتهدم الجبال من فظاعته.

والمؤسف في الأمر أن نرى السادة المتبوعين يتمتعون بالحصانة المطلقة ويجدون في المجتمع رجالا مستعدين لبذل مهجهم في سبيل الدفاع عنهم، ويعتبرونهم خطوطا حمراء لا يجوز تجاوزها، ومن تجرأ وتكلم في شيء يمت إليهم بصلة وإن كان ملتزما بأدب الخلاف ومتحليا بقواعد النقد العلمي فأقل ما يمكن أن يتعرض له جراء ذلك هو الأذى، لأن الكبراء عند هؤلاء معصومون، كل ذلك يحدث في مجتمع يزعم أهله أنهم منتسبون إلى الإمام مالك صاحب المقولة الشهيرة ( كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب القبر ) والتي تعتبر قاعدة ذهبية في وضع كلام البشر في المكان الجدير به، وإنزال الوحي في المنزلة التي ينبغي أن يكون فيها.

إن هذه المخالفات العقدية التي نعيشها في هذا الوقت في مجتمعنا لم تأت هكذا اعتباطا، وإنما كانت بسبب الغلو في المتبوعين ورفعهم فوق قدرهم، مع عدم وجود من ينكر هذه المنكرات إنكارا يقطع جذورها ويردها إلى جحرها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في كل مناسبة يُخلط فيها بين حق الله وحقه عليه الصلاة والسلام.

يا مَنْ لهم كلمة نافذة في المجتمع، ويا مَنْ لهم أتباع يأتمرون بأمركم وينتهون بنهيكم، يجب أن تضعوا نصب أعينكم أنكم ما نلتم هذه المكانة وهذا الاحترام في المجتمع إلا بسبب هذا الدين الذي تنتهك حرماته وتستباح مقدساته وتمتهن أصوله، واعلموا أن في إنكار هذه المخالفات العقدية التي تغضب رب العزة والجبروت النجاةَ من عذاب الله.

أيها السادة المتبوعون، يجب عليكم وجوبا محتما أن تبينوا للمجتمع أن المتبوعين الذين تربطكم بهم صلة الرحم بشر يصيبون ويخطئون، وأن المرتبة التي يحتلونها في المجتمع إنما نالوها بشرف خدمتهم للدين، فهم عبيد لله يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، فليس لهم مرتبة الصحبة فضلا عن مرتبة النبوة، وبهذا المنهج نستطيع بتوفيق الله تحصين مجتمعنا من الغلو المفضي إلى جعل المتبوعين أصناما يُعبدون من دون الله، ولا أظن أنه يخفى عليكم أن المجتمعات تنجو من الهلاك بوجود المصلحين لا بالصالحين، فكفُّوا عن التغني بأمجاد الصالحين، وركزوا على الإصلاح  العميم الذي فيه أمان للمجتمع من رجز الله الأليم.

 

(*) باحث في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

2 تعليقات
  1. غير معروف يقول

    جزاكم الله خيراً شيخنا الدكتور.
    نسأل الله عز وجل أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا

  2. عبد الكريم باه يقول

    لقد صدقتم حين نطقتم، وأفدتم حين نشرتم، فالله نسأل أن يثبتنا على ما يرضيه ربنا، ولا يآخذنا بما فعل السفهاء منا.

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.