إنّهم ينتحرون!

بقلم الباحث/ عبد الرحمن باه

توطئة

إنّ الإنسان هو سيّد الكون الّذي يعيش فيه؛ بحكم التّسخير الّذي أنعم الله _تعالى _ به عليه،

والنّفس الإنسانيّة من الضّرورات الأولى، والمقاصد العليا، المتحتّمة الحفظ في جانبيّ الوجود والعدم_ كما تؤكّد قواعدنا الدّينيّة المستنبطة من روح الشّريعة كتابا وسنّة_ وتلك حقيقة لا تكاد تغيب عن بال مسلم، مهما كان ضحل الثّقافة، ضعيف التّأصيل، فكلّ مسلم يعرف حرمة نفس الإنسان، وإن انتهكها مغلوبا من الشيطان!

وقد احتفظت ” النّفس” بالهيبة في مجتمعات المسلمين، قديما وحديثا، يفرحون بقدومها (المولود)، ويتحسّرون على رحيلها (المفقود)، ولعلّ بيئات البادية تميّزت في ذلك عن أوساط الحضر، فالبدو يعشقون الحياة، ويعيشونها هادئة هادية، سهلة ميسورة، تضحك في وجوههم فيستبشرون ويشكرون، وتعبس أحيانا فيتحمّلون ويصبرون!

لكن ما حدث ويحدث في مجتمعنا البدويّ في السنوات الأخيرة، يقلب المعادلة المذكورة أعلاه، وكأنّ البدو استعاضوا لحبّ الحياة كرها، وسئموها حقّا، فأرادوا فطامها قبل الموعد، وقطع العلاقة معها في الحين، على الطّريقة البدويّة الّتي لا ترضيها أنصاف الحلول، ولا ترضى إلّا بكامل النّصر، أو بكلّ الهزيمة، فعمدوا إلى الآبار والحبال، ليوقفوا الحياة التّعيسة_ وهموا_ وليديروا الظّهر عنها غير مأسوف عليها، وهذا هو الحلّ _زعموا_ ومن الوهم ما قتل!

 في مدّة وجيزة _أقلّ من سنة _ لقي ما يربو على عشرة أشخاص مصرعهم منتحرين، وفي منطقة جغرافيّة متقاربة (تتوزّع في حدود أقاليم: ماتَمْ_ تَمْبَا كُنْدَا- كَفْرِينْ) من بينهم مسنّ ربما سلخ العقد السّادس من عمره، وصبيّ دون السادسة عشرة من سنّه، ومرضعة خلّفت وليدا لم يكمّل شهره الخامس، وشابّ قضى بعد ساعات من إشرافه على وليمة عقيقة لوليد له، وحامل مثقلة اصطحبت جنينها إلى رحلة الموت.. والقائمة تطول. ترى ما الانتحار؟ وما دوافعه؟ وهل من سبل لمواجهته؟ أسئلة وغيرها، أسعى في هذ المقال للإجابة عليها، والله سبحانه وليّ التّوفيق وبه أستعين، وهو حسبي ونعم الوكيل!

تعريف الانتحار

بعض الأشياء ذكرها تفسيرها، ومنها قضيّة الانتحار _موضوع حديثنا_ فلا حاجة إلى الاستعانة بالمعاجم للتّعريف به، فالانتحار واضح جليّ إنّه ذلك الفعل الّذي يصدر من امريء ليزهق روحه ويلحق حتفه، فهو فعل تلك المرأة الّتي رأت الحبل أرأف بها من ذلك الّذي يسبّب لها الألم، ويقطع عنها الأمل، فطوّقت جيدها بحبل فارقت به الحياة!

الانتحار: عمل ذلك الرّجل الّذي اعترف بالهزيمة في معركة الحياة، فعمد إلى سكّين قطع به أوداجه ليقطع أوجاعه (زعم)!

الانتحار: ذلك اللّقاء المحتوم من القدر لتلك المسكينة الّتي أسقطت نفسها في البئر، حين سقط من عينها المخلوق الّذي تزوّج بها، ونقلها عن دار المولد إلى داره بعيدة عن آهلها والأقرباء، ثمّ ودعها معلّقة لا تتمتّع بالحقوق زوجة، ولا يخلّي سبيلها مطلّقة، وراح الكائن الغدّار ليعاشر بالفحشاء امرأة أخرى، بعلم زوجته وبحرّ مالها، ولمّا كان المجتمع لا يسمع صوتها قرّرت إخفاءه إلى الأبد، فكان قاع البئر ملجأها والسّند، وعند الله _ تعالى _ يجتمع الخصوم!

الانتحار: ذلك الصّنيع الّذي أبكى الوليد الّذي جاع وحنّ إلى ثدي أمّه، فبكى أملا في تحقيق مأربه _ على عادة لداته_ لكنّه لم يجد راحة أمّه تمسح على رأسه الصّغير، وتلاطفه بـ “لا تبك يا صغيري” فتلك الرّاحة فارقت هذه الدّنيا بحثا عن الرّاحة، وذهلت عن الوليد الرّضيع، لتتركه في مواجهة الحياة عازلا، إن قدّر له البقاء إلى أجل!

الانتحار: ذلك الجرح الغائر والكلم العميق الّذي خرق فؤاد أمّ رحل نور عينها إلى المجهول ولم يودّعها، بل استفاقت على أصوات المعزّين قائلين: إنّه القدر يا أمّ فلان، فتتجلّد حيث لا جلد، فكم هو محزن فراق الولد!

الانتحار: فقد للحياة، وتعجّل للممات، ومخالفة لأمر الخالق، وتعرّض للوعيد الشّديد، فهو مشكلة في غطاء حلّ، وصاحبه كالمستجير من الرّمضاء بالنّار، وإلى الله _ سبحانه وتعالى _ المشتكى من النّار ومن العار!

أسباب الانتحار

الحياة حلوة خضرة، فلا يرغب عنها سويّ، إلّا ببرهان قويّ _ ولو بنظره _ فاختيار سواها عليها يعني ترجيح كفّة “السِّوى”، والتّرجيح نسبي_ كما يقال_ لكنّ الانتحار ليس حلّا على كلّ حال.

وهناك جملة أسباب تقارن حوادث الانتحار، وأزعم أنّها تتلخّص في الضّعف والخور، الدّاعي إلى الاستسلام وقبول الهزيمة، نَعم ضعف وعجز عن الاستمرار في مسار الحياة المليء بالتّقلّبات والمطبّات الّتي تجعل حتّى الكبار يفكّرون في الفرار أحيانا، إلّا أنّهم يجدون ظهيرا من القوّة يمدّهم بالثّبات، والقوّة هنا، ليست جيشا جرّارا، ولا كميّا كرّارا، وإنّما هي قوّة قلب بالإيمان، وصحّة جنان بعظيم الإيقان، ومتى فُقد ذلك حلّ الضّعف والوهن، وفشل صاحبه في مواجهة المحن، فيُقدم على الفعلة الشّنيعة، والخلّة المشؤومة (الانتحار)، ويستوي في ذلك عديمو الإيمان أو ضِعافه وإن اختلفوا في الثّقافة الّتي يحملونها !

وأنقل هنا فقرة عن صاحب المنار إذ يقول:  ” إن أعلم الحكماء الغربيين في هذا العصر قد بينوا في مباحثهم في طبائع البشر أن الإنسان إذا ترك إلى مداركه الحسية، ونظرياته العقلية، وتسلل من وجدان الدين والإلهام الإلهي بالحياة الأخرى، يكون أشقى من جميع أنواع الحيوان الأعجم، ويكون جل شقائه من نظرياته العقلية، فهو إذا فكر في هذه الحياة القصيرة التي تساورها الآلام الشخصية، من جسدية ونفسية، والآلام المنزلية (العائلية) والقومية والوطنية والدولية، يراها عبثا ثقيلا، ويرى من السخف أو الجنون أن يحمل شيئا منها مختارا لأجل زوجة أو ولد أو وطن أو أمة، ويرى أن الطريقة المثلى في الحياة ألا يتعرض لألم من هذه الآلام، فلا يتزوج ولا يعمل أدنى عمل ولا يتكلف أدنى تعب لأجل غيره، وأن يطلب لذّاته الجسدية من أقرب الطرق إليها، وينتظر الموت للاستراحة من هذه الحياة، فإن أبطأ عليه ونزلت به آلام يشق عليه احتمالها من مرض أو فقر مدقع أو ذل مخز فليبخع نفسه ويتعجل الموت انتحارا”. تفسير المنار (1/ 187)

ويتجلّى السّبب المذكور (ضعف الإيمان أو عدمه) في نقاط أكتفي ببعضها ممّا يرويه شهود العيان وأقرباء الضّحايا:

الخوف من العار: بعض المجتمعات القاسية لا ترحم الضّعاف، فتوقع عليهم أشدّ العقاب عندما يخالفون بعض قوانينها، ومن ذلك ما يتّصل بما يعرف بجرائم الشّرف ونحوها، فإذا ابتلي ضعيف بتجاوز بعض الخطوط الحمراء لتلك المجتمعات الّتي لا تتيح لمثله محاميا يدافع عنه من عذابها الأليم، فقد ينتحر طلبا للخلاص، أو اعتقادا بأن لا مناص، وقد سجّل في حوادث الانتحار من أقدم عليه بعد فضيحة جنسيّة دوّى خبرها الأرجاء، فلم تسكن إلّا بخبر رحيله من هذه الدّار، إلى دار البقاء!

اليأس من زوال ألم: عجنت بعض البيئات بالقهر والاستبداد، فرأي الأب فيها نصّ محكم لا يقبل التأويل، والعمل به يضاهي في الوجوب العمل بالتّنزيل، والزّوج فيها سيّد مطاع، وليس على العبيد (نسائه وأهل بيته) إلّا الانصياع، والكبير لم تبالغ في حقّه إن اعتقدت فيه العصمة، والصّغير حقّه الاقتداء، وما عداه فَداء من عناد يستوجب التّأديب، وإيلام الجسم بالتّعذيب… بيئات كالمذكورة مصانع انتحار بامتياز، فكم أرغمت فتاةً على الاقتران بمن لا تحبّه، متجاهلة بأنّه مخلوق له روح ودم وعقل وبدن، يتألّم ويشعر، ويحبّ ويبغض، وليس ظلّا لأبيه، أو ملكا لذويه، ولكن لا حياة لمن تنادي، وبعد الانتحار يفيق المتمادي وقد “سبق السّيف العذل”، كما في هذه القصّة الحزينة للغادة العشرينيّة الّتي أجبرت على الزّواج من ابن عمّتها، فلم تطق معاشرته، وعادت أدراجها إلى بيت أبيها، لكنّ الأب المستبدّ صمّم إرجاعها لزوجها، وقال لها _ وهو يغادر المنزل إلى السّوق  الأسبوعي_ :

غادري قبل إيابي _ قاصدا إلى بيت زوجها _، فأجابته بنبرة حازمة ملؤها اليأس والقنوط: نعم لن تراني في منزلك بعد اليوم! وكان ذلك آخر حديث بينهما، فقد آب الأب المسكين إلى منزله، مخيّما بسكون لا توازي سكون جثة ابنته المنتحرة! 

الأمراض (عقليّة وبدنيّة): يبدو أنّ كثيرين من أفراد الجيل الحاضر يعانون من أمراض بعضها مقلقة، وربّما يؤثر المبتلى بها إخفاءها لاعتبار أو آخر، وتقوده في النّهاية إلى ما لا تحمد عقباه، وبعضها أمراض من صنع شياطين البشر، الّذين ينفثون سموم السّحر في العقول والأبدان، فتفقدها الاتّزان، وتدفع أحيانا إلى سلوك سبيل الانتحار، والشّواهد تنطق في ذلك بأمور مروّعة، وأحداث مفزعة، فإلى الله _ تعالى _ المشتكى!

ومن ذلك ما أخبرنيه ثقة: أنّ مدرّسا أحبل بالزّنا إحدى تلميذاته، فكانت جولات بينه وبين أهلها في أروقة المحكمة، ولمّا كانت الكفّة تطيش إلى صالح المدرّس _ لوساطات يملكها _ فوجئ الجمع بالعثور على جثّته وحبل المشنقة في رقبته، وجواره أوراق مسوّدة بالطلاسم والخواتم، فكان سيف السّحر _ فيما يبدو _أمضى من حكم القاضي، “والله يحكم لا معقّب لحكمه”!

أمّا حادثة انتحار بنت عمّتي (ملا) فالمرجّح أنّها كانت تعاني من مرض أرّقها، على حين غفلة من أهلها، فقد لاحظوا قبل أسبوع من موعدها مع الموت اضطرابا في سلوكها، وغرابة في بعض تصرّفاتها، ولكن لحساسيات تفترض لم يباشروا سؤالها بل ظلّوا يراقبون حتّى وقع الفأس على الرّأس فكان تأويلا لما لم يجدوا له من قبل تفسيرا، فردّدوا الأنشودة المعتادة: قدر لا يغني عنه حذر!، وقد صدقوا في القول: قدر الله وما شاء فعل، ولكن ما ضرّ لو جوبه قدر بقدر، حتّى لا يتذرّع مهمل بقدر، وأستغفر الله من “لوٍ” تفتح عمل الشّيطان!

حلول في مواجهة خطر الانتحار

إنّ مواجهة الانتحار فرض لازم على المجتمع بمكوّناته المختلفة، كلّ قدر وسعه وطاقته ” ولا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها” والحلّ _ برأيي _ تربويّ بالدّرجة الأولى، فتجب إعادة النّظر في أساليب التّربية؛ فما كان منها صالحا في زمن قد لا يكون كذلك في هذا الزّمن الّذي تعقّدت فيه أشياء كانت بسيطة، واستجدّت مشكلات وتحدّيات. فيجب وضع ذلك في الاعتبار، ويجب أن يكون في قمّة الهرم: غرس قيمة الإيمان في النّفوس، الإيمان الإيجابي المؤثّر، الّذي يورّث صاحبه عملا صالحا، ويلبسه تقوى لله وخشية منه _تعالى _ . الإيمان بالقضاء والقدر بصورته الصّحيحة الّتي تواجه الأقدار بالأقدار، فتواجه قدر الفقر بقدر السّعي في الأرض والعمل الحلال، كما تقاوم قدر الجوع بالأكل الطّيّب، وتقف في وجه قدر الألم بقدر البحث عن الحلّ وإحياء الأمل، مع استصحاب الصبر الجميل. كما يتحتّم منح الحرّيّة لكافّة الأفراد، فالحرّية منحة من الله تعالى للإنسان، فيحرم حرمانه منها بغير وجه حقّ، وهي حرّيّة متشعّبة الأطراف، متنوّعة المجالات، حرّية التّعبير عن حاجات النّفس، وحرّية الحركة لتحقيق الذّات، حرّية الاختيار لشريك الحياة، حرّيّة التصرّف في المال المملوك… إلى غير ذلك من الحرّيات المكفولة في الدّين، والمضمونة بالقانون، فهي ترشّد وتوجّه وتضبط، لكن لا يجوز أن تنتهك أو تسلب.

وإذا كان المذكور حلولا قريبة وبعيدة المدى في الوقت نفسه، وتتّصف بالعموميّة والاستمرار، فإنّ هناك حلولا آنية ينبغي أن تحظى بالاهتمام، ولعلّي أورد منها ما يلي:

  • المحافظة على الأذكار الشّرعية الثّابتة في الكتاب والسنّة، من أذكار الصّباح والمساء والنّوم ونحو ذلك.
  • الالتزام بالأحكام والآداب الشّرعية من الصّلوات الخمس، واللّباس الشّرعي، والبعد عن المحرّمات قدر الإمكان، والتّوبة من المعاصي والآثام.
  • الإكثار من الدّعاء للنّفس والأهل بالوقاية من الشّيطان الرّجيم.
  • تكوين فريق عمل يتقصّى الأسباب المعلومة لحوادث الانتحار بغية دراستها بجدّية.
  • توعية المجتمع في خطورة النّفس والسّبل الكفيلة بحفظها. عبر المنصّات والمنابر المتوفّرة.
  • صدّ ما يمكن من وسائل الانتحار، من تغطية الآبار ونحوها. وإبعاد ما يمكن استعماله في الانتحار عن المشتبه بهم.
  • نقل من تظهر عليه أعراض المرض من القلق ونحوه إلى المستشفى.

 وبعد: فالعقل والرّوح صنوان، وبهما وبالجسم يكمل الإنسان، فيجب إيلاء هذه الثّلاثيّة عناية متوازنة، فللعقل غذاء من المعارف الصّحيحة والأفكار الصّائبة، والرّوح نفخة من الباري، فأيّ اختلال في اتّصاله به يهوي بصاحبه للهاوية، فما أحرى الفرد والمجموع بتقوية صلة الرّوح بالله تعالى بتلقّي وحيه بالقبول، وإظهار تعاليمه في دنيا الواقع، والجسم وعاء الجميع فحفظه ضرورة، وبحفظ الثّلاثة تكتمل الصّورة.  

2 تعليقات
  1. غير معروف يقول

    مقال مفيد ، بارك الله في الكاتب

    1. C D L يقول

      إنه لمقال مانع وسلس العبارات وحاوٍ الكثير من الرسائل المتحتمة معرفتها، لهذا له على زائري الصفحة أن يقرءوه بتأن، كما أن للناس حق على الناشر أن يترجمه إلى اللغة الأكثر متابعة لتعم الفائدة، وتصل رسالته إلى الخواص والعوام.
      فبارك الله في الكاتب وزاده نفعا للأمة بفكره ووقته وقلمه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.