دعوتنا والحاضنة الاجتماعية (الجزء الرابع)

(*) عبد القادر انجاي.

الخدمة لا الجفوة:

طبيعة الأنسان تحكمها دوافع غريزية لا بد من إشباعها مثل: الجوع  العطش الجماع. و حاجات نفسية لا بد من تلبيتها مثل: الحب الانتماء الاستكشاف و احتياجات أساسية فى حياتهم لا بد من توفيرها لتكي تهنئ و تطيب مثل: اللقمة السائغة التى تسد رمقه و اللباس السابغ الذى يستر عورته و المسكن الدافئ الذى يأوى إليه و يحتمى به من قر البرد و حر الصيف و رزقا كفافا يحفظ كرامته و يصون عرضه. و هو ينجذب لذالك إلى  من يوفر له هذه الاحتياجات التى بها قوام حياته و يعينه على تحسين أوضاعه المعيشية.

إن الإنسان مطبوع على حب من يخدمه و يحسن إليه و يغدق عليه بالنعم و الهدايا. روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال:

(جبلت القلوب على حب من أحسن إليها و بغض من أساء إليها) [أورده أبو نعيم فى الحلية ص 122]

و قد يصل يالمرء تأثير الخدمة و الإحسان الساحر إلى درجة من القبول و الإلزام الأخلاقي نحو المحسن تشبه العبودية و فى ذالك يتمثل الشاعر أبو الفتح البستي:

أحسن إلى الناس تستعيد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

ويقول أبو العتاهية متضجرا:

و ليست ايادى الناس عندى غنيمة

و رب يد عندى أشد من الأسر

إن الخدمة لها مفعول السحر فى تليين القلوب و كسب ودها و هي بذرة طيبة تنبت العلاقات الإيجابية و تبنى الولاآت النافعة و قلما تذبل لها ثمرة أو يتقلص لها ظل. و لأمر ما تبنى الإسلام من ضمن وسائل الدعوة سياسة العطاء و السخاء المادي على مناوئيه من  مصاريف الزكاة لتأليف قلوبهم و استمالة ضمائرهم. يقول الشهيد سيد قطب رحمة الله عليه فى الظلال [االمجلد الثالث ص 1669]

” و المؤلفة قلوبهم” و هم طوائف منهم الذين دخلوا حديثا فى الإسلام و يرااد تثبيتهم عليه. و منهم الذين يرجى أن تتألف قلوبهم فيسلموا. و منهم الذين أسلموا و ثبتوا و يرجى تأليف قلوب أمثالهم فى قومهم ليتوبوا إلى الإسلام حين يرون إخوانهم يرزقون و يزادون.

و بغض النظر عن أبعاد الخدمة ا الاسترتيجية فإنها  محور أساسي من أهم محاور الدين و هل الدين بعد توحيد الحق تعالى إلا الرحمة بالخلق و تحقيق الحياة الطيبة و السعادة  لهم و نشر روح التضامن و التكاتف بينهم ؟ و لقد امر الله بها  عز و جل و حث عليها فقال:( ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )   [سورة المائدة  ءاية 2]

و قال تعالى: ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  [سورة الحج ءاية 77 ]

و بين أن النكوص عن القيام بواجب التضامن مع المعوزين و المحتاجين سمة أهل الكفر الذين لا يؤمنون بيوم الحساب فقال تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ )(فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم) (َوَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِين) [ سورة الماعون الآيات 123] أما عباده الصالحين فمن خصالهم : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرا) [سورة الإنسان ءاية 8]

 كما حرض على الإنفاق فى أبواب البر و وعد بذالك الأجر الجزيل فقال: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [سورة آل عمران ءاية 92ِ].

و لقد رغب نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فى خدمة الناس و إسناد المعوزين و دعم المحتاجين و نوه بشأن المتشرفين بهذه الخصال النبيلة و مكانتهم المرموقة فى جناب الله تبارك و تعالى فقال:

 (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) متفق عليه. و قال: ( أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس و أحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم ) رواه الطبراني. و قال: (و الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه ) رواه مسلم و غيره. و قال: (و من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) متفق عليه. و يقول صلى الله عليه و سلم: ( إن هذا المال خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين و اليتيم و ابن السبيل ) متفق عليه .

و قد تنوعت وجوه الخدمة و تعددت أنواعها من : إطعام المساكين و كسوة العراة و كفالة اليتامى و إغاثة الملهوفين و علاج المرضى  و تعليم الجاهلين  و إيواء الغرباء إلى آخر ما هنالك من مسالك الخير و سبل البر و هي كلها فرص متاحة لاكتساب الأجر من الله تعالى و نيل رضاه.

إن دعوتنا الإصلاحية فى أمس الحاجة إلى مزيد من استلهام فلسفة الخدمة و العطاء لكسب حاضنة اجتماعية قوية لها و هي تواجه .مخططات تهدف لشيطنتها ثم عزلها اجتماعيا.  و لكي تكون مع المجتمع فى علاقة اندماجية وطيدة كما يصف شيخنا العلامة يوسف القرضاوي حفظه الله تعالى:

إنما تنجح الحركة حقا يوم تستطيع تحريك الشعب معها و أن ينتصر لها و يغضب لغضبها و يرضى ب رضاها و يقدر مواقفها و جهودها و يلعن خصومها و أن تجعل همها اندماج الحركة فى الشعب بحيث تجرى فيه كما يجرى الدم فى العروق و الشعيرات و تختلط به كما يختلط الروح بالجسد أو النور بالعين فلا يستطاع فصل الحركة عن الشعب و لا عزل الشعب عن الحركة. [أولويات الحركة الإسلامية ص 58 ]

لكي تكون كذالك لا بد من مضاعفة الجهود لتبنى هموم الناس و قضاياهم و سد احتياجاتهم الضرورية قدر الإمكان. و لا بد من الابتعاد عن الجفوة التى تقابل الخدمة و هي خذلان المجتمع واستصغار شأنه و الانعزال عنه و رسم الحدود الخيالية و وضع الحواجز الفكرية الكثيفة إزاء. و يوم تنجح الدعوة فى ذالك سوف يبتسم لها ثغر النصر و يكون النجاح حليفها و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله تعالى.

خاتمة: هذا المقال تتمة لسلسلة من المقالات أسميتها ب “دعوتنا و الحاضنة الاحتماعية و عنونت أجزائها الثلاثة بعد المقدمة بهذه العبارات الثلاثة التى قد تصلح  فى مجموعها شعارا جامعا لدعوتنا فى هذه الظروف التى تمر بها وهي :

1- الانتماء لا القطيعة 2- الاندماج لا العزلة 3- الخدمة لا الجفوة.

للمساهمة فى صناعة الوعي و بناء الرؤية و استشراف الحلول الفكرية لما تواجهنا من تحديات جسام فى واقعنا الدعوي. و أشكر الله تعالى على توفيقه لى بإتمامها و أسأله بوجهه الكريم أن يتقبلها منى و أن يجعلها فى ميزان حسناتى.

و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.

سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.