حركات الإصلاح الإسلامية بين مشروعي الدعوي والسياسي. مابين حركة النهضة “التونسية” و المشروع الإسلامي في السنغال.[1]

(*) محمد بشير جوب

كان سقوط الخلافة الإسلامية سببًا في بروز مشروعات متعددةٍ، وأطروحاتٍ مختلفةٍ، بعضها اختلاف تنوُّع وأخرى اختلاف تضادٍّ، والحديث عن أيِّ مشروعٍ أو عن أي طرحٍ منها، يوجب علينا الوقوف في السياقات التاريخية التي نشأ فيها، لاستحضار كل العوامل والمتغيّرات التي صاحبت نشأة هذ المشروع أوذاك التيار، ليس فقط لإدراك التوجهات قبل الحكم على المواقف، ولكن أيضًا للإنصاف والوصف المناسب عند تقييم أعماله، وما يهمنا أكثر ونحن بصدد دراسة هذا الموضوع، هو التركيز على الحركات الإسلامية على أساس كونها قوًى مؤثّرةً في المجتمع، لها أهدافها واستراتيجيتها، تتأثّر بالظروف المحيطة بها، لكونها جزء من الصراع الاجتماعي والسياسي، وهي بهذا المفهوم لم تكن فقط أمام مسؤولية المقاومة لاستعادة الخلافة – كما يرد ذلك في بعض أدبيات الحركات الإسلامية – ولكن أيضًا أمام مسؤولية تصحيح أوضاع اجتماعيةٍ عامةٍ، أثقل كاهل المواطن العادي؛ نتيجة الانحراف السياسي؛ فاضطرّت أحيانًا لتغيير الأساليب والنّشاط لمسايرة الواقع.

الحركات الإسلامية بين الفكر والتنظيم:

ظلّ معظم الحركات الإسلامية منذ النّشأة إلى يومنا هذا معرّضًا لجملة من الخلل، سواءً على صعيد القيادة أو المناهج، أو الفكر أو المفاهيم، أو التفاعل بين الظّروف والنّصوص، والمدنَّس والمقدَّس، والواقع والمرتجى، دفعها ذلك في أكثر من مرة إلى إلى إحداث عدة مراجعات تجاوباً مع المستجدَّات، وبغية الإرتقاء إلى مستوى التحديات التي تواجهها، وإن نجحت نسبيًّا في استدراك بعض الجوانب، يبقى جانب التنظيم، أي الشّكل الذي تفرغ فيه جهود الجماعة لتحقيق هدفٍ مرسومٍ، أهم عائق يتمثّل أمامها، حيث صار الاعتقاد السائد لدى قطاعات واسعة من الحركة الإسلامية، أن التنظيم غاية في حدّ ذاته، وأن الإسلام لن يعود لسابق مجده إلا من خلال التنظيم.

ونتيجةً لذلك، باتت خدمة التنظيم هي الهدف الأساسي، وليس خدمة المجتمع وعوام النّاس، وأصبح فهم ووعي شباب الحركات الإسلامية  للقضايا العامة، وتفاعلهم معها يغلب عليه العمومية والانطباعية والكسل في التتبع الثقافي للقضية العامة، ولم تفلح الحركة الإسلامية حتى الآن في الوصول إلى صياغة متّزنة تتوافق مع ثنائية الفكر واالتنظيم، والواقع والنص، والدعويّ والسياسيّ، فوقعت ضحية لوابلٍ من النّقد، نتيجة التردّد والارتجال، إضافة إلى كونها عاجزةً عن مواكبة التطوّرات داخل الحركة نفسها أو فيما حولها، ومن باب أولى عن أن تكون صانعة التطوّرات ومبدعة الاجتهادات.

لعلّ هذا ما دفع أحد رموز الحركات الإسلامية  إلى القول: “إن الحركة الإسلامية التي ظهرت وبدأت أقرب إلى أن تكون “حركة تحريرية” وكانت بحاجة ماسّة إلى فكر نضالي منضبطٍ ومتمذهبٍ باختياراتها، قد أصبحت اليوم مدعوَّةً وملزمةً بأن تكون حركة اجتهاديةً تجديديةً، في نفسها وفي مجتمعها، فلذلك أصبحت في أمسّ الحاجة إلى الفكر الحرّ وإلى الفكر المبدع، فهي بحاجة إلى أن تطلق وتدفع “حركة الفكر” من غير خضوع وتبعية لفكر الحركة”.(1)

وطالما أن السياسة هي محصلة الثقافة والفكر، بمعنى أن الإنسان يقتنع أولاً بالاتجاه الفكري، ثم يختار تأسيساً عليه الاتجاه الثقافي والسياسي، فإن النقد الذاتي في الحركة الإسلامية المعاصرة ينبغي أن يتوجه في الأساس إلى ناحية الاتجاه الفكري والثقافي، ثم بعد ذلك يتوجه للحركة والسياسة(2)، ولذلك جاءت ثنائية الدعويّ والسياسيّ كآخر ماتمخّضت من حزمة مشكلة الثنائيات، التي جعلت الحركات الإسلامية تراجع مواقفها، نتيجة زخم التغيّرات التي لحقت بها، وخاصّةً بعد وقوعها في امتحان السلطة، ورغم أن علاقة الدعويّ بالسياسيّ سبق  طرحها؛ إلا أنها لم تنل حظًّا من المعالجة الصريحة إلا في الآونة الأخيرة، حين تجرأ فيها بعض الحركات الإسلامية إلى محاولة تمييز ماهو دعويّ وماهو سياسيّ، ثم نسج تنظيم الحركة على منوال هذا التمييز أو التفريق.

العقيدة السياسية في فكر الحركات الإسلامية.

لم تكن المشكلة لدى أغلب الحركات الإسلامية في تبنّي السياسة، وتربية أفرادها عليه، وإنما المشكلة كانت تكمن في عدم تحول هذه العقائد الدينية لدى هذه الحركات إلى عقائد سياسية، تحكم على الواقع من خلالها، وتحدّد موقفها منه، بناء على هذه الأصولية الدينية، ولهذا وقفت بعض الحركات الإسلامية موقفًا متناقضًا في حكمها على الواقع السياسيّ.

فالعقيدة السياسية هي مجموعة الأفكار والمبادئ والقيم التي تحدّد الموقف من الواقع السياسيّ، وتحكم له أوعليه، وتقدّم تصوّرًا عامًا للنظام السياسيّ؛ الذي يجب أن يحكم الدولة وطريقة سياسته للمجتمع وعلاقة السلطة بالأفراد وحقوقهم وحرياتهم(3)، وتمثّل أبرز عناصر الضعف الذي عانى منها الحركات الإسلامية في العجز عن حل عقدة العلاقة بين العقيدة السياسية والعقيدة الدينية، وظنّت بأن العقيدة الدينية وحدها تستطيع تغيير الواقع السياسي، ولم تميّز إلا أخيرًا أن الحركة الإسلامية هي في الأصل والواقع جماعة دينية، ترى رسالتها الرئيسية في ربط الانسان بالله والاستعداد ليوم الآخر، ويلزم عليها بعد ذلك طرح خياراتٍ سياسيةٍ محددةٍ  تتجاوب مع تطلعات المجتمع،  وتمتلك ملكة الاختيار بين التوازنات الماثلة أمامها، كما أن عليها أن تضمن تفاعل الجمهور معها تفاعلاً إيجابيًّا، يجعل للحركة موقعًا ونفوذًا متميزًا يستند على إنجازاتها في خدمة المجتمع.

إن حسن توظيف العقيدة السياسية، هو الذي يجعل الجمهور يفهم صورة الحركة، ويدرك مراميها وأهدافها، ويكون جاهزا لقبولها والتّضحية معها، من أجل تحقيق برامجها، تفيد الدّراسات المتخصّصة في علم الاجتماع السياسي، أن الجمهور لا يتحمس لمساندة تيار؛ إلا إذا تحقق فيه شرطان: الأول أن يفهم الجمهور مقاصد التيار وأهدافه، والثاني: أن يجد الجمهور لدى التيار حلاّ لمشاكله الحقيقة التي يعاني منها، الأمر الذي لم ينطبق حتى اللّحظة على أغلب الحركات الإسلامية، وتشير إلى ذلك مقولة الدكتور حاتم الطميري: ” إن عدم الواقعيّة السياسيّة والتعامل الإيجابي ومراعاة الظرف الزماني والمكاني، والظروف الاجتماعية والسياسية قد يفضي بالحركات المثالية إلى العزلة والشلل والعجز عن تغيير الواقع السياسي لصالحها، لتخرج من دائرة القوى السياسية إلى دائرة التجمعات الدينية التي تعيش عالمها الافتراضي بعيدا عن الواقع وسنن التدافع”.(4)

حركة “النهضة” والفصل بين الدعويّ والسياسيّ:[2]

الناظر في أدبيات حركة النهضة وسلوكها السياسي، من مرحلة النشأة والتأسيس، يتبيّن أنها طورت نسبيّاً تصوّرها المتعلق بمسألة العلاقة بين الديني والسياسي، ففي المراحل الأولى تمسّكت الجماعة بطابعها الدعوي، خصوصاً في مرحلة النشأة وبدايات التأسيس، وأكّدت أن من أبرز مهامّها بعث الشخصيّة الإسلامية لتونس، والمساهمة في بعث الكيان السّياسي والحضاري للإسلام والعالمي، وهو خطاب تبنّى تأكيد “الاتجاه الإسلامي” للحركة، وعلى الرغم من إدراكها أهمية الإعلاء من قيمة الشأن السياسي في نشاطها، استجابة لتطلعات الناس إلى الحرّية، والكرامة، والتعدّدية، وتغييرها اسمها من حركة “الاتجاه الإسلامي” إلى حركة النهضة سنة 1989، فإنّها استمرّت عقوداً في الدمج بين الدعوة إلى الدين وممارسة السياسة.

وبجانب التزام الحركة إلى الجمع بين ثنائية الدعوة والسياسة، فإن اتجاه محاولة قلب هذه المعادلة التقليدية كان حاضرًا، ويمكن ملاحظته من خلال تصريحات أهم الفاعلين داخل الحركة، منتقدين من يعتقد أنّهم في نفس الانتماء الإيدولوجي، ففي كتابه “من تجربة الحركة الاسلامية في تونس” انتقد راشد الغنوشي المنهج الفكري الاخواني، معتبرًا أنه “يضمّ الجانب العقائدي الأخلاقي على حساب الجوانب السياسية والاجتماعية، ويقيس الأوضاع والجماعات بمقياس عقيدي، مما ينتهي معه الأمر إلى تقسيم الناس الى إخوة وأعداء، ويغلب جانب الرفض في تعامله مع الواقع والثقافات الأخرى، وحتى مع المدارس الاسلامية الأخرى، فهو أحادي النظرة، ويكاد يشكل منظومة مغلقة.”(5)

وإلى أبعد من ذلك ومحاولا ًفرض مقاربة بين الإسلام والعلمانية، لم يتوان الغنّوشي في عرض تفسيرٍ للعلمانية أذهل الكثيرين في صفوف الحركات الإسلامية، في حين اعتبره الأخرون تحولاً إيجابيًا في الفكر الحركي ووعًيا سياسيًا مدنيًا افتقد إليه منظّروا الحركات الإسلامية، فذكر الغنّوشي في مقال له: “……. بهذا المعنى يمكن أن تجد العلمانية الجزئيّة لنفسها مكانًا في تصورٍ إسلاميٍّ اعترف بنوعٍ من التمايز بين المجال السياسي بما هو شأن دنيويّ يدور على جلب المصالح ودرء المفاسد، مما تأهّل فيه العقل للإدراك، وبين المجال الدينيّ وبالخصوص التعبّديّ مما لا سبيل إليه في كلّيّاته وجزئياته غير سبيل الوحي من عقائد وشعائر وأخلاقيات ومقاصد…”.(6)

خطف بعض العلمانيّين كلام الغنّوشي ووظّفوه لمصلحتهم، ففسّر بعضهم تصريحه بالقول: “يشير الغنوشي إلى ضرورة التخلّي عن المفهوم السائد للدّين وعلاقته بالدولة في الإسلام، باعتباره موروثاً عن عصور إسلامية خلت ولم يعد ملزماً؛ لأنه كان اجتهاداً فقهياًّ فرضته ظروف ومعطيات تلك العصور، وأنه لا بدّ من اجتراح مفهوم جديد يستجيب لظروف العصر، وبناء على ذلك لا يقع المعتقد الديني للفرد ضمن علاقته بالدولة، بل ضمن الفضاء الخاص به، يؤكّد ذلك أن المكلف في الإسلام، والذي ستقع عليه مسؤولية الحساب يوم القيامة بناء على هذا التكليف هو الفرد وليس الجماعة أو الدولة”.(7)

ليس من السهل لدى الحركات الإسلامية تقبّل أيّ اتّجاه أو فكر من هذا القبيل، وخاصّة بعدما فُهم هذا التصريح خاطئًا، ولكن الإنصاف يقتضي مقارنة هذا الطرح بما قاله الغنوشي في تصريح آخر: “فلسفيًّا ليس هناك فصل بين الدّين والدنيا، ولكن كون الإسلام رسالة شاملة لا يعني أن الأدوات التي تخدمه ينبغي أن تكون أيضا شاملة، فشمولية الفكرة لا تعني شمولية التنظيم”(8). وتلوح الإشارة واضحةً في هذا الشاهد إلى أن الفصل المعلن لا يمسُّ الطرح الشموليّ للفكرة الإسلامية بقدر ما يهدف إلى الفصل الوظيفي بين أبعاد المشروع.

لم تكن هذه الانتقادات والتصريحات سوى إرهاصاتٍ تنبئ عن تحول جذري، سيضع ثنائية الدعويّ والسياسيّ في محك مراجعة عميقة ونقد غير عادي، يتجاوز  مجرد التمايز فقط بين ما هو سياسيّ وماهو دعويّ، ليصل إلى التفريق والفصل بينهما بتاتًا، بذريعة الاستجابة إلى مستجدّات الواقع، والحرص على ديناميكيةٍ أكثر للحركة، ففي صحيفة “لوموند الفرنسي” اختار الغنّوشي أن يصرح عن هذا الفرق حين قال: ” بأن حركة النهضة ستخرج من الإسلام السياسي لتتحول إلى حزب «سياسي، ديموقراطي ومدني له مرجعية حضارية مُسْلمة وحداثية (…) نحن نتجه نحو حزب يختص فقط في الأنشطة السياسية» مضيفاً: «نريد أن يكون النشاط الديني مستقلاً تماماً عن النشاط السياسي. هذا أمر جيد للسياسيين لأنهم لن يكونوا مستقبلاً متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية، وهو جيد أيضاً للدين حتى لا يكون رهين السياسة وموظفاً من السياسيين” (9)

بينما أكّد ذلك رفيق عبد السلام وزير الخارجية السابق وصهر الغنوشي لوكالة فرانس برس قائلا: “إن مصطلح الإسلام السياسي غامض وملتبس، ولا أحد يعطي تعريفاً دقيقاً له”، مضيفاً: “لم يعد هناك حاجة للإسلام السياسي الاحتجاجي في مواجهة الدولة، نحن الآن في مرحلة البناء والتأسيس، نحن حزب وطني يعتمد المرجعية الإسلامية ويتّجه إلى تقديم إجابات أساسية على مشاغل واهتمامات التونسيين في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية”. (10)

فيما حاول حسن بن حسن، عضو مجلس شورى حركة النهضة، والباحث في الفلسفة الغربية، تبرير هذا التوجه قائلا: “أن سعي النهضة إلى البحث عن فضاء فكري وسياسي جديد قائم على الفصل بين الدعوي والسياسي هو بمثابة قطع الحبل السري بين الأم والمولود، فعلى الرغم من أنها عمليةٌ مؤلمةٌ ومزعجةٌ ولكن من خلالها يولد الأمل ويتحرر المولود من ضيق رحم الأم، الذي احتضنه نطفة ثم علقة حتى أصبح خلقاً آخر قادراً على أن يضرب بقدمه في دنيا الناس، منطلقاً إلى فضاء العالم؛ لينحت تجربة إنسانية جديدة، وأن الفصل بين الدعوي والسياسي سيحرر الأم (حركة النهضة) والمولود الجديد (حزبها) من أعباء الالتصاق الدائم والمتواصل، بمعنى أن التيّار الموجود في داخل الحركة والمقتنع بأهمية وضرورة المسار الدعوي والإرشادي، ستكون أمامة فرصة للتحرك والتفاعل مع المجتمع التونسي بشكل أفضل وأسرع وأهدى سبيلاً، بعيداً عن شغب قرارات التيار السياسي داخل الحركة المؤمن بأهمية وأولوية العمل السياسي على الدعوي”.(11)

وفي هذا التوجّه نقلة نوعية في مستوى نقد الذّات، والوعي بأنّ المراحل السابقة من سيرة الحركات الإسلامية شابها خلطٌ بين ما هو من اختصاصها وما هو خارج اختصاصها (النشاط الدعوي والجمعياتي). وتكمن أهمّية هذا التحوّل في أنّه يرفع اللّبس المتعلّق بهوية حركة النهضة، ذلك أنّه دالّ على اختيارها التموقع داخل المشهد السياسي، والمساهمة فيه بصفتها الحزبية وبمقترحاتها البرامجية، لا بصفتها الدينية، أو أعمالها الدعوية .

المشروع الإسلامي السنغالي، الموقع والموقف:[3]

تأثر الفكر الحركي السنغالي بالتيّارات الإصلاحية ذات التوجّه الإسلامي في العالم، سواء من النّاحية الإيدولوجية أو التنظيمية، فمن النشأة إلى الآن حصر أغلب الحركات الإسلامية في السنغال عملها في الجانبين الديني والاجتماعي(12)، مبعدةً نفسها عن المعترك السياسي لزهدها عنه، أو لعدم جدوى التعويل عليها، أو لوقوعها  في امتحان ثنائية الدعويّ والسياسيّ، ولم تتهيّأ لها الفرص بعد لحسم معركتها الفكرية مع نفسها في هذا الصدد، وقد أضرّ هذا الموقف المتذبذب كثيرًا بالمشروع الإسلامي في السنغال بشكل عام، فلم يستطع حتى الآن اختراق المجتمع السنغالي بشكل يتيح له التموقع الذي يكسب له التأييد الحصري من الجمهور.

لايختلف اثنان في أن المشروع الإسلامي في السنغال أمام امتحان عصيب، ويعزى ذلك إلى وجود مشاكل بعض جوهرية في أداء الحركات الإسلامية التي تمثلها، بعضها فكرية وبعضها تنظيمية، أدّت ذلك إلى عدم قدرة المشروع الإسلامي حتى الأن تحديد الموقع والموقف الذي يلبّي واقع المجتمع، ومن ثم تحديد أدوات المواجهة المناسبة، فالحركات الإصلاحية باعتبار المشروعات التي تتبناها لتحقيق أهدافها نحو الإصلاح تنقسم إلى قوًى سياسيةٍ تحمل مشروع سلطة فقط، وأخرى تحمل مشروع دولة، يعتمد دعاة مشروع السلطة على الفاعليّة والمنافسة من خلال النظم والمؤسّسات الشرعيّة الموجودة للدولة، فيقتصر دورهم على إثبات عدم الفاعليّة السياسية للسلطة، ولا يحتاجون في دعوتهم للتغيير إثبات عدم شرعيتها، وعادة ما يكون النظام السياسي في هذه الدول هو الذي ينظم عملية التداول السلمي للسطة وفق النظام العام للدولة.

بينمايتجاوز دعاة مشروع الدولة مشكلة أداء السلطة القائمة وقصور فاعليتها السياسية، إلى مشكلة وجود الدولة ذاتها وطبيعة نظامها السياسي وهي عادة ما يحدث في الدول التي لم يستقر سياسيّا والذي لايمثل فيها النظام العام إرادة الأمة، وتخرج طبيعة المواجهة في هذه الحالة من المنافسة للوصول إلى السلطة أو تصحيح أدائها، إلى الصراع مع السلطة ويولّد ذلك غالبّا أزمات عميقة بين صاحب المشروع الإصلاحي والدولة من جانب، ومن جانب آخر قد يتعرض المشروع للتشويه أمام المجتمع، ونجاح أي فكر حركي يبدأ بالتمييز بين المشروعين، وترجيح أنسبهما لصالح الحركة.

المشروع الإسلامي السنغالي بين مشروع السلطة ومشروع الدولة:

يعد السنغال أرضّا منعمةً ومفعمةً بالأمن والاستقرار، وهضم شعبها فكرة الدولة والمواطنة منذ استقلالها، ويفترض أن يكون ذلك طبقًا من ذهب لكل صاحب فكرٍ أو مشروعٍ، بشرط أن يحسن فنّ استغلال الفرص، ومنذ تشكّل النّواة الأولى للحركات الإسلامية في نهاية السبعينات حتى الآن، ومالحق ذلك من تطورات في بنيتها الفكرية والتنظيمية، مازالت الضبابية في الرؤية سائدًا في أدائها، خاصة فيما يتعلق بتقديم مشروع تتسم بمرونة تجعله قادرًا على المواكبة والاستيعاب.

فما يمكن الوصول إليه من القليل المكتوب من أدبيات الحركات الإسلامية في السنغال، ومانستطيع حصوله من خلال المتابعة والعصف الذهني، يشير إلى أن الحركات الإسلامية وضعت المشروع الإسلامي في مخاض عسير، يتجلّى ذلك في كونها تبنّي أدوات غير أدواته، من خلال تكريس جلّ جهوده في دعوى تطبيق الشريعة، دون الوقوف في تفسير معنى الشريعة، كي تدرك أن معنى “الشريعة” في الاستعمال القرآني يشمل الدين كلّه، لقد ورد لفظ “الشريعة” بهذه الصيغة في القرآن الكريم مرة واحدة هي قوله تعالى “ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتَّبعها ولا تتَّبع أهواء الذين لا يعلمون”.(13)

فإذا فهمنا الشريعة بمعناها القرآني، أي باعتبارها شاملة للدين كله بعقائده وشعائره وأخلاقه وقوانينه، فسنفهم أن الشريعة ليست معطلة تعطيلا ًكاملاً في السنغال، بل هي معطلة تعطيلاً جزئيا، وذلك إذا أخذنا في الاعتبار أمران أولهما: أن المسلمون في السنغال لا يزالون متشبثين بعقائدهم، مواظبين على عباداتهم ملتزمين، بأخلاقهم الإسلامية في الجملة، وهذا كله يدخل ضمن الشريعة بالمعنى القرآني. ثانيهما: أن جملة القيم الدستورية والسياسية الإسلامية غير معطلة كاملة، مادام الآلية الدستورية في البلد تسمح ببناء دولة ذات سلطة شرعية منتخبة تسوي بين الحاكم والمحكوم أمام القانون، وتجرم الاستبداد والفساد وتسوي بين مواطنيها في الحقوق والواجبات.

يتضح مماسبق أن الجزء الذي تم تعطيله من الشريعة في السنغال هو الشق القانوني من الشريعة، خصوصًا القانون الجنائي وبعض قوانين الأسرة والمال، فيفترض أن تكون أدوات المواجهة على هذا المستوى فقط وفي الوقت نفسه استغلال الجوانب الأخرى _جانب الشق الدستوري والحياة العامة_ كنقاط قوة لتغيير الواقع، هذا الخلط في الخيار والأدوات يفرض على الحركات الإسلامية مراجعة مواقفها للتوصل إلى صيغة تلبي مقتضيات الواقع، وصياغة تنظم الحركة ليست على فكر الحركة، بل على حركة فكر المجتمع بذاته، ويلزمها بعض ذلك تبني مشروع سلطة تسعى من خلاله تغيير الواقع السياسي، وفق الآاليات الشرعية المتاحة، دون التفريط في القيام بواجبها الدعوي.

الهوامش

  • أحمد الريسوني، الحركة الإسلامية بين فكر الحركة وحركة الفكر مقال للدكتور أحمد الريسوني الموقع الرسمي.
  • السيد أبو داود النقد الذاتي .. المهمة الغائبة في ثقافة الحركة الإسلامية : الأربعاء 20 يونيو 2007 الرابط (http://islammemo.cc/Tkarer/Tkareer/mkalat-we-Thlilat/2007/06/20/45755.html).
  • حاتم المطيري، العقيدة السياسية ضرورتها وخطورتها سلسلة نحو وعي سياسي، 20/09/2010ص 12.
  • حاتم المطيري الحركات الإصلاحية بين المثالثة والواقعية 29/11/2010م.
  • راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الاسلامية في تونس، دار المجتهد للنشر والتوزيع، 2011، مقال: العناصر الفكرية المكونة للحركة الاسلامية بتونس، ص 73.
  • راشد الغنوشي الإسلام والعلمانية – نشر في التجديد يوم 15 – 12 – 2008.
  • خالد الدخيل، الغنوشي: الإسلام يتسع للعلمانية ولحرية المعتقد! 22 مايو 2016م

http://www.alhayat.com/Opinion/Khaled-El-Dakheel/15710199/.

  • ياسين نبيل، مؤتمر حركة النهضة: تحول أم تشكل جديد للإسلام السياسي،

http://nawaat.org/portail/2016/05/21/

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.