[ النهضة الإنسانية عند مالك بن نبي: توصيف وتوظيف ] (الجزء الأول)

(*) الحسين كان

ومضة مالكية: فلكي نقيم حضارة ما (يجب أن نصنع رجالا في التاريخ مستخدمين التراب والوقت في بناء أهدافهم).

إن المتابع لحركة الفكر والإصلاح يجد أعلاما تركوا بصمات عريضة في ميكانيكية التقييم والتقويم للرقي بالإنسان إلى الحضارة بشقيها المادي والمعنوي.

ومن بين هؤلاء الشخصية الفذة مالك بن نبي الذي خلف تراثا علميا واقعيا انهال عليه الكتاب والباحثون من كل حدب وصوب، الأمر الذي يفسر كثرة الأطروحات والأعمال العلمية التي أجريت حول مؤلفاته.

لا أريد الخوض في تفاصيل حياة مالك بن نبي – مع العلم بالعلاقة الجدلية القائمة بين السلوك والممارسة تأثيرا وتأثرا – لكني أريد أن أشير إلى أنه كاتب ذو نظرة شمولية؛ فيلسوف ومؤرخ حضاري، ومصلح أصيل له طابع العالم الاجتماعي، ومفكر نَبِه جمع بين دقة المنهج وقوة البرهان، ووضوح الأفكار وشمولية التناول، يقول الأستاذ أنور الجندي: ” ومثل مالك بن نبي بين مفكري العالم الإسلامي قليل فهو الرجل الذي ورد مورد الغرب، وجاءنا منه نقياً صافيا، وقد حفظ الله له أصالته وأفاد مما وجد، نصاعة فكر، وبعد نظر، وعمق فهم، وقدرة على كشف تلك التحديات والشبهات والأوضاع التي عمد التغريب والغزو الثقافي على نصب شباكها، لتدمير الفكر الإسلامي  وإثارة أجواء الاضطراب والتخلخل بين جوانبه ” [1].

والناظر في كتابات مالك يلمس بشكل جلي اهتمامه بالإنسان في إطار تشخيص مشكلاته، ووصفَ الدواء المناسب له انطلاقا من إيمانه بأنّ الإسلام هو المنقذ في حالة الضعف والتهور؛ إذ أرسى القرآن الكريم في الضمير المسلم تحديدا جوهريا لإدارة القوة وفقاً للآية الكريمة: )تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ( [القصص : 83].

وفي هذه الأسطر القادمة نريد الوقوف على بعض الأفكار التي رسمها مالك بن نبي لبناء نهضة إنسانية مؤهلة لصنع الحضارة، ولتسليط الضوء على ذلك نرى أن نقدم الآتي:

        1- مركزية الإنسان في المشروع الحضاري عند ابن نبي:

لا يعسر على الدارس لنصوص ابن نبي استخلاص المكانة المركزية التي يتبوؤها الإنسان في مشروع البناء الحضاري؛ إذ لا يتأسس صرح الحضارة بدون بناء الإنسان، لذلك فـــــ”السعي لتشييد الإنسان تربويا وثقافيا، وبث “الفاعلية الحضارية” في كيانه يمثل اللبنة الأولى والرئيسة التي ينبني عليها المشروع الحضاري كله عند مالك بني؛ فبناء الإنسان في نظره أسبق من كل تشييد مادي في المشوار الحضاري” وهذا يتطلب في نظره دراسة أهم القوانين والسنن التي تتحكم في حركة الإنسان وفعاليته في التاريخ تأسيسا للحضارات، وبناء لها أو انحطاطا بها، وفي هذا المجال نجده يدعو إلى استيعاب أكثر ما يمكن من نتائج العلوم الإنسانية والتطبيقية قصد توظيفها لصياغة القوانين والمعادلات التي يعتقد أنها توجه الحضارات وتتحكم في دورتها الخالدة من الميلاد إلى الأفول [2].

إن قيمة أي حضارة مرتبطة بقيمة الإنسان؛ إذ هو من ينطق بلسانها ويعطي للعناصر الأخرى (الوقت + التراب) دلالة جوهرية وقيمة فاعلية، وكل بناء سليم للإنسان تربويا وثقافيا يعني بالضرورة إكساب الزمن والتراب الشرطية والقيمة الحضارية، ويجب أن نلاحظ أن الحضارة الإسلامية انتهت منذ الحين الذي فقدت في أساسها قيمة الإنسان، وليس من التطرف في شيء القول بصفة عامة أن الحضارة تنتهي عندما تفقد في شعورها معنى الإنسان [3].

        2- مفهومه للإنسان:

إن مفاهيمنا عن الأشياء هي الإطار المحدد لكيفية التعامل معها، لذلك فإن أية نظرة خاطئة عن التصور تخلف نتائجها السلبية عاجلا أم آجلا، وهذا ما يفسر تلك السلسلة من الدمار الذي عانت منها الإنسانية في ظل أيدولوجيات تنظر إلى الإنسان على أساس المادية؛ بحيث ينبغي التخلص منه بأية كيفية يعد يحقق إنتاجا ماديا.

وفي هذا الإطار نجد ابن نبي يخالف علماء الاجتماع في طرحهم  لمفهوم الإنسان على أنه حيوان ناطق أو اجتماعي، بل تعدى ذلك إلى ذكر أخص خصائصه فيرى أن الإنسان حيوان ذو دين [4]، وهي لفتة توحي إلى إيمانه المستصحب عند كل فركة يناقشها، وكل فقرة يكتبها، وكل مسألة يعالجها، وكل مشكلة عقلية فكرية تاريخية حضارية يشخصها [5]، كما يظهر ذلك في طرحه (الفكرة الدينية) كالدينامو المحرك للحضارة، والحقائق العلمية تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه لم توجد قط أمة بغير دين [6]، لذا فإن أية نظرة للإنسان تسلبه هذه الخاصية الفطرية (التدين أيا كان شكله) تعتبر ظلما كبيرا وأيّما ظلم.

        3- مفهوم النهضة:

إن المحور الذي تدور حوله أفكار مالك هو مشكلة الحضارة؛ ولذلك نجد كتبه جميعها قد صدرت تحت عنوان ثابت هو ” مشكلة الحضارة “، لذلك يصعب فهم معنى النهضة دون معرفة رؤيته للحضارة، نظرا للعلاقة التلازمية بين الحضارة والنهضة.

وفي إطار طرحه لمفهوم الحضارة نجد مالك – لتميزه بالمنطق الصارم، والتأمل العميق والقدرة على التحليل- يرفض تلك التفسيرات التي تقول بأن:

  • ‌أ- الحضارة نتاج لتحدي الطبيعة كما عند (توينبي).
  • ‌ب- الحضارة نتاج جغرافي كما عند (هالفور).
  • ‌ج- الحضارة نتاج أخلاق الفروسية التي لا تهتم بحساب الأرباح والخسائر، ولكنها تعتبر عن مبدأ التضحية، كما عند ( أسوالد اشبنغلر) [7].

فيرى مالك بأن الحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية؛ ولا تظهر إلا في صورة وحي يهبط من السماء، أو أنها تقوم – على الأقل – على أساس من توجيه الناس نحو معبود غيبي[8]، لذلك فإنه حين استعرض تفاسير نشوء الحضارات، رفضها ومال إلى ذلك الذي يرى أن الروح هو أساس الحضارة كما عند (كسرلنج)[9]، ومع ميله إلى هذا التفسير إلا أنه عقب عليه بقوله: ” ونحن نجد عنده تأييد لفكرتنا عن تطور الحضارة، وتنوع العوامل النفسية، إذ يقول: ” إن مركز الثقل للحضارة تزحزح عن مكانه، وتحول بالنهضة والإصلاح الديني، من مجال الروح إلى مجال العقل” [10]، وأضاف: ” وجملة القول إن وسيلة إلى الحضارة متوفرة ما دامت هنالك فكرة دينية تؤلف بين العوامل الثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت، لتركب منها كتلة تسمى في التاريخ [حضارة]”[11].

هذا، عن تفسير نشوء الحضارة، وأما عن تعريف ماهيتها، فإن مالك في لوحة تمثيلية يشبّه الحضارة (بالشمس) التي تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب ثم متحولة إلى أفق شعب آخر [12]؛ إذ الحضارة عنده : ” جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره ” [13]. فمن أخذ بها شرقت له شمسها، ومن تركها غربت عنه.

وعليه، فإن النهضة هنا تمثل القيام بخطوات إصلاحية من أجل تحقيق عملية الإقلاع الحضاري، وترتبط ارتباطا وثيقا بفك عقدة (القابلية للاستعمار) عن ردة الفعل للشعوب المستعمرة تجاه الاستعمار [14]، والقاعدة الصلبة التي يضعها مالك بن نبي لعملية النهضة أو الإقلاع إنما هي الإسلام؛ لأن روح الإسلام هي التي خلقت من عناصر متفرقة كالأنصار والمهاجرين أول مجتمع إسلامي، وأن قوة التماسك الضروري للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام؟

الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا، والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي، يرسم للإنسان طريقه: طريق الحضارة الذي يهب للإنسان حرياته وأصالته وألوان اختياره جميعا [15]، ويجدر بالقادة المسلمين أن ينظروا إلى المشكلة في هذا الاتجاه، فيترجموا قيم الإسلام الروحية إلى قيم اجتماعية [16]، بشرط الابتعاد عن الارتجال، والعمل من أجل حضارة تتطلب من الفرد أسمى مواهبه الأخلاقية والعقلية، وتقتضي منه أقصى تضحية وإيجابية [17].

هكذا طرح مالك مفهوم النهضة وهو طرح عميق يحتاج إلى تكييف آلياتها وفق معطيات المحيط التنزيلي من خلال رسم المنطلقات والكيفيات التطبيقية التي سنتناولها في الأجزاء القادمة من هذا المقال تحت عنوان: (آليات صنع النهضة الإنسانية: شروط ومعالم).

الهوامش الإحالات

(*) باحث في كلية الدعوة الإسلامية- طرابلس، ليبيا    17/02/2017م

[1] –  أعلام القرن الرابع الهجري، أنور الجندي، ن: مكتبة الأنجلو المصرية، د.ر.ط، ص: 139.

[2] – ينظر: مالك بن نبي من حضارة الكم والأشياء إلى حضارة الإنسان والقيم، رضا إبراهيم، ضمن “رحابة الإنسانية والإيمان” م س، ص: 230.

[3] – القضايا الكبرى، مالك بن نبي، ن: دار الفكر المعاصر، بيروت- لبنان + دار الفكر، دمشق – سوريا: 1410هـ -2000م، ص: 164.

[4] – ينظر: الظاهرة القرآنية، مالك بن نبي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، تقديم: محمد عبد الله دراز+ محمود شاكر، ن: دار الفكر، الجزائر، دار الفكر، دمشق- سوريا: 1406هـ – 1986م، ط:3، ص: 71 وما بعدها.

[5] – سؤال الإيمان في المنظومة الفكرية الحضارية لمالك بن نبي، ورقة عمل مقدمة من الدكتور عقلية حسين، في الملتقى الدولي: مالك بن نبي واستشراف المستقبل في تلمسان: 12-13-14- ديسمبر 2011م.

[6]– ينظر: الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، د. محمد عبد الله دراز، ن: دار القلم – الكويت:1431ه- 2010م، ط: 3، ص: 128.

[7] – ينظر: تدهور الحضارة الغربية، أسوالد اشبنغلر، ترجمة: أحمد الشيباني، ن: دار مكتبة الحياة، بيروت – لبنان، د،ت،ن، ج1، ص: 10.

[8] – ينظر: شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة: عمر كامل مسقاوي + عبد الصبور شاهين، ن: دار الفكر، دمشق- سوريا: 1406هـ – 1986م، ص ص:50-51.

[9] – ينظر: نفس المصدر، ص ص: 62-65.

[10] – المصدر السابق، ص: 57.

[11] – المصدر السابق، ص ص: 57-58.

[12] – ينظر: المصدر السابق، ص: 49.

[13] – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مالك ابن نبي، ترجمة: بسام بركة، أحمد شعبو، ن: دار الفكر، دمشق- سوريا: 1988م، ص: 42.

[14] – تأملات، مالك بن نبي، ن: دار الفكر المعاصر، بيروت – لبنان + دار الفكر، دمشق – سوريا: 1423ه-2002م، ص: 185.

[15]– فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ، ترجمة: عبد الصبور شاهين، ن: ن: دار الفكر، الجزائر، دار الفكر، دمشق- سوريا: 1422هـ – 2001م، ط:3، ، ص: 235.

[16] – المصدر السابق، ص:235.

[17] – المصدر السابق، ص: 241.

5 تعليقات
  1. Al_Fadhillou M.D يقول

    ما شاء الله، مقالة قيمة ومهمة، بارك الله فيك أيها المقاصدي الحضاري…

  2. […] لا يعسر على الدارس لنصوص ابن نبي استخلاص المكانة المركزية التي يتبوؤها الإنسان في مشروع البناء الحضاري؛ إذ لا يتأسس صرح الحضارة بدون بناء الإنسان، لذلك فـــــ”السعي لتشييد الإنسان تربويا وثقافيا، وبث “الفاعلية الحضارية” في كيانه يمثل اللبنة الأولى والرئيسة التي ينبني عليها المشروع الحضاري كله عند مالك بني؛ فبناء الإنسان في نظره أسبق من كل تشييد مادي في المشوار الحضاري” وهذا يتطلب في نظره دراسة أهم القوانين والسنن التي تتحكم في حركة الإنسان وفعاليته في التاريخ تأسيسا للحضارات، وبناء لها أو انحطاطا بها، وفي هذا المجال نجده يدعو إلى استيعاب أكثر ما يمكن من نتائج العلوم الإنسانية والتطبيقية قصد توظيفها لصياغة القوانين والمعادلات التي يعتقد أنها توجه الحضارات وتتحكم في دورتها الخالدة من الميلاد إلى الأفول [2]. […]

  3. […] تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه لم توجد قط أمة بغير دين [6]، لذا فإن أية نظرة للإنسان تسلبه هذه الخاصية الفطرية […]

  4. Cheikh cisse Al badawy يقول

    تبارك الله عليك أعجبني مقالك الدكتور الحسين تسلم كثيرا

  5. مالك امبي يقول

    جميل يا أستاذ الكريم،فبارك الله فيكم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.